الأحد، 9 يناير 2022






كتامة البربرية صانعة الإمبراطورية الفاطمية.


يقول المُعزّ لدين الله الفاطمي، (المجالس والمُسايرات" للقاضي النعمان)

أجدادهم مع أجدادنا، وآباؤهم مع آبائنا، وهم معنا، وكذلك يكون أعقابهم مع أعقابنا إلى يوم الدين.


بعد فترةٍ من الزمن امتدّت إلى قرن، استكمل فيها الفتح الإسلامي أَسْلَمة بلاد المغرب والأندلس، دخلت المنطقة التي تُسمَّى بلاد المغرب أو الغرب الإسلامي مجرى التاريخ الإسلامي، وأضحت جزءاً من إمبراطورياته ومن فضائه الثقافي. غير أنه مع مطلع القرن العاشر الميلادي، شهدت المنطقة ظهور حدثٍ تاريخيٍ بارزٍ وحاسمٍ أقحم المغاربة ومنطقتهم الطرفية في قلب التاريخ الإمبراطوري والديني والحضاري للإسلام، من موقع الصانِع والمُوجِّه للأحداث وليس من موقع المُتلقّي فحسب.

فقد شكَّلت قبيلة كتامة البربرية قاعدة اجتماعية لحركةٍ كُبرى سُرعان ما تحوَّلت إلى إمبراطوريةٍ ممتدّة الأطراف، قدَّمت إضافات نوعية للمسار العام للتاريخ الإسلامي.

فماذا نعرف عن هذه القبيلة؟ وكيف اقتحمت التاريخ الإسلامي من أوسع أبوابه لتتحوَّل من قبيلةٍ جبليةٍ هامشيةٍ إلى عصبيةٍ ضاربةٍ لواحدة من أكبر الإمبراطوريات في تاريخ الإسلام؟

كتامة في المصادر ما قبل العربية

وردت في بعض النقوش اللاتينية التي تعود إلى العصر البيزنطي كلمتا Ucutumani وUcutamii لوصف مجموعةٍ من السكان تعيش بشكلٍ مستقلٍ في جبال البابور في الجزء الشرقي من سلسلة جبال الأطلس التَلَّي في شرق الجزائر الحالية، وهي واحدة من المواطِن المعروفة لبطون قبيلة كتامة (1)، كما ذكرها الجغرافي الشهير بطليموس في القرن الثاني الميلادي باسم Koidamousii (2).

أسَّست تلك المجموعات السكانية المُتمرِّدة كياناً مستقلاً بين مدينتي سطيف وجْمِيلَة في شرق الجزائر حالياً، سُمِّي ب Respublica Vahartanensium (3)، لكن مع ذلك يمكن القول إن نزوع تلك القبائل نحو التمرّد والمواجهات المُسلّحة مع السلطات المركزية الرومانية (4)، لم يمنع المسار العام للرَوْمَنَة الذي طبع كل جهات الإمبراطورية العُظمى.

وبذلك نكون أمام حقيقة أكَّدها الكثير من المؤرِّخين وعلماء الآثار الغربيين، أن أولئك السكان الموجودين مُبْكِراً في المنطقة والذين حافظوا على نفس نمط معاشهم لقرونٍ طويلة، هم فعلاً أسلاف كتامة.

كتامة في فترة الفتوحات الإسلامية








 التأريخ للإمبراطورية الفاطمية في مرحلتها المغربية كما المشرقية، هو فعلياً تأريخٌ لكتامة لأنها القاعدة الاجتماعية التي مكَّنت الإيديولوجية الإسماعيلية من بناء صَرحٍ إمبراطوريٍ وحضاريٍ كبير، وبالتعبير الأصلي لإبن خلدون فإن "الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم"(7)، وهي الفكرة التي أعاد صوغها المؤرِّخ الأميركي جون وانسبرو في معرض حديثه عن المهدي الفاطمي، محور الدعوة الإسماعيلية، عندما لاحظ بأن دعاية الحركة الفاطمية كانت مهمة من الناحية التاريخية، لكن نجاح الثورة يعود أساساً إلى الطبيعة القبلية البربرية (8).


تميَّز "الحزب الإسماعيلي" من دون غيره من أحزاب المعارضة الشيعية (تحديداً الزيدية والإمامية) في العهد العباسي بتنظيمٍ حديديٍ كفؤ امتاز بقدرٍ كبيرٍ من السرّية، وبدعايةٍ فعَّالة اعتمدت على دُعاةٍ مُحترفين بثَّهم في مختلف نواحي العالم الإسلامي (9) انطلاقاً من السلمية في سوريا الحالية باعتبارها دار الهجرة الأولى، وفق الخطاب الإسماعيلي (10)، لكنه مع ذلك عوَّل بصفةٍ أكبر على ثلاث مناطق رئيسة؛ بلاد فارس واليمن وبلاد المغرب.

وقد بات واضحاً من خلال مصادر عديدة بأن الدعاية الإسماعيلية دخلت مُبْكراً إلى بلاد المغرب، وقد وجدت صدىً لدى القبائل البربرية، وتنافست مع باقي الدعوات الخارجية والواصلية (المُعتزلية) والزيدية، في المناطق الوَعِرة والنائية. وهي تتجاوز بلا شكّ الرواية التقليدية التي نقلها إلينا القاضي النعمان عن اللقاء التاريخي بين الداعي أبي عبد الله وبين حجّاج كتامة، لتؤكِّد حقيقة وجود أرضيةٍ اجتماعيةٍ خصبةٍ لتقبّل الأفكار الإسماعيلية في المناطق الكتامية سبقت نشاط الداعي.

وقد أرجع العديد من المؤرِّخين كإبن خلدون في تاريخه والمقريزي في "اتّعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء"، والقاضي النعمان نفسه في "افتتاح الدعوة"، بدايات بثّ الدعوة الإسماعيلية في المغرب إلى جعفرٍ الصادق سادس أئمة الشيعة، الذي أرسل الداعيتين عبد الله بن علي بن أحمد الحلواني وأبا سفيان الحسن بن القاسم، وهذا يؤكِّد ما ذهب إليه المؤرَّخ البريطاني المُختصّ في التاريخ الوسيط لشمال أفريقيا مايكل بريت من وجود تجمّعاتٍ إسماعيليةٍ في المنطقة أحدها كان إلى الشرق من جبال الأوراس (11).

لذا فلا غرابة أن نجد أن من بين الحجيج الكتامي الذين رافقهم الداعي إلى ديارهم، رجلين من قبيلة جيملة (أحد البطون البارزة لكتامة) وهما حريث الجيملي وموسى بن مكارم، كانا من تلامِذة الداعية الحلواني (12).

وليس من المُستَبْعَد أيضاً أن تكون الدعوة الإسماعيلية في المغرب قد استفادت من نظيرتها الزيدية، فيمكن القول إنه رغم الاختلاف في طُرُق الدعوة وفي أُسُس المشروع السياسي بين الأدارسة الزيدية والفاطميين الإسماعيلية.

من المُرجَّح أن الدعوة الإدريسية قد ساعدت على خَلْقِ رصيدٍ قويٍ للدعاية العلوية في المغرب، بتعبير المؤرِّخ الجزائري موسى لقبال، خصوصاً وأنها انتشرت غالباً بين قبائل مُستقرِّة من البرانس وهم حلفاءُ كتامة الطبيعيون، استثمره الفاطميون بعد ذلك في دعوتهم التي تلقَّفتها بعض المجموعات الكتامية في البداية، ثم اعتنقتها كل بطونها التي سكنت مواطِن كتامة والتي تمتد إلى مجالاتٍ أوسع من تلك التي حدَّدها إبن خلدون في عصره: "تنتهي عند بجاية غرباً، وعند كتلة أوراس جنوباً، إلى سيف البحر عند بونة شمالاً، وهي الموافقة حالياً لمناطق في الوسط والشرق الجزائري، وتحديداً لمنطقة القبائل الصُغرى وما يليها شرقاً وصولاً إلى جبال ولاية عنّابة، وغرباً إلى جبال زواوة في منطقة القبائل الكُبرى، وجنوباً باتجاه الحدود المُتاخِمة لجبال الأوراس مروراً بولايات سطيف وميلة وقسنطينة".

وصل الداعي إلى بلاد المغرب رفقة الحجيج الكتامي، بعد رحلةٍ طويلةٍ من السلمية مقرّ المهدي الفاطمي إلى اليمن، وفي ذهنه وصية إمامه ومُعلّمه المنصور في اليمن:" أرض كتامة من المغرب قد حرثها الحلواني وأبو سفيان، وقد ماتا وليس لهما غيرك، فبادِر فإنها مُوَطَّأة مُمَهَّدة لك"، التي وردت في مصادر عديدة (13)، فبدأ في تنشيط الخلايا الإسماعيلية المُنتشرة في تلك الربوع، وكانت البداية من المنطقة الجبلية الوَعِرة لايكجان في شمال شرق سطيف أين أقام قلعة في جنوب جبال البابور، وفَّرت له ولأتباعه ملاذا آمِنا بعيداً عن أعين الأغالبة (14).

وخلال عقدٍ من الزمن جهَّز الداعي نواةً صلبةً أو نُخبةً طليعيةً كتامية لثورته أسماها "أولياء الله"، بعد أن درس جيّداً الظروف السياسية والجغرافية والأمنية والاجتماعية للمنطقة اعتماداً على أتباعه من الكتاميين؛ إلى الغرب من قسنطينة لم يكن هناك وجود حقيقي للسلطة المركزية للأغالبة، وفي الحواضِر المُحَصَّنة لسطيف وميلة وبلزمة (ولاية باتنة الحالية) اكتفى حُكَّامها المحليون بحضورٍ رمزيٍ لسلطة المركز تمثَّلت في الدُعاء للخليفة العباسي في صلاة الجمعة.

أما القبائل البربرية الزناتية، التي اعتنقت في غالبها المذاهب الخارجية، فكانت تتَّخذ من مناطق واسعة في غرب وجنوب المغرب الأوسط مجالات للرَعي والترحال أو شبه الاستقرار في جبال الأوراس، على هامش أيّ تأثير مركزي.

وكان أول أهداف هذه النُخبة هو القضاء على بؤَر المعارضة داخل المجال الاجتماعي الكتامي نفسه قبل الاصطدام بالسلطة الأغلبية، ثم أسَّس الداعي قلعة أخرى في تازرو
ت شمال شرق ميلة، ومع توافُد البطون الكتامية المختلفة بسبب نشاط مَن أسماهم بالمشائخ والمُقدّمين، وهم الدُعاة الكتاميون الذين كَوَّنهم، لنشر الدعوة الإسماعيلية في الأرياف والقرى والحواضِر.

وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن دور الكتاميين في نشأة الإمبراطورية الفاطمية لم يكن عسكرياً فحسب وإنما ساهموا في إرساء المدرسة الفُقهية والفكرية الإسماعيلية في المغرب وبرز منهم الفقيه أفلح بن هارون الملوسي (15)، بل وحتى القاضي النعمان الذي يمكن اعتباره الأب المؤسِّس للمنظومة الفُقهية الإسماعيلية والمؤرِّخ الأول للحركة الفاطمية، وإنْ لم يكن من أصولٍ كتاميةٍ، فهو إبن البيئة المغربية التي كان الكتاميون جزءاً منها.

ثم سُرعان ما تحوَّلت قلعتا إيكجان وتازروت إلى مدينتين تُطبَّق فيهما التعاليم الإسماعيلية، وتُهيَّأ فيهما الأرضية لاستقبال المهدي الذي "سيملأ الدنيا عدلاً". لقد أصبحت فكرة المهدوية هي المحور الأساس لخطاب الداعي كما كتب المؤرِّخ الألماني هاينتس هالم (16).

توالت انتصارات الكتاميين على الأغالبة بقيادة الداعي وبدأت تتساقط مواقع نفوذهم الواحدة تلو الأخرى، حتى سقطت الزَّاب، فاتحةً الطريق نحو القيروان (تونس الحالية)، إلى أن سُحِق الجيش الأغلبي نهائياً في معركة الأربس (في ولاية الكاف التونسية على الحدود مع الجزائر) في 909م، فسقط حلفاء بغداد العباسية، وفرَّ آخر حُكَّامهم زيادة الله الثالث إلى مصر.

كتامة من الثورة إلى الدولة
بدأ الداعي وأتباعه من الكتاميين في إرساء تنظيماتٍ إداريةٍ جديدة انطلاقاً من مدينة رقَّادة في ضواحي القيروان، والغوص في طبيعة هذه التنظيمات الإدارية في رقَّادة أو قبلها في تازروت التي طبَّق فيها الكتاميون التعاليم الإسماعيلية ونعتها هانتس هالم بدولة تازروت الثيوقراطية (17)، تحتاج إلى تعمُّقٍ أكبر لأن تسارُع الأحداث السياسية والعسكرية في المرحلة المغربية منع الباحثين في الغالب، من التوسّع في هذا المضمار.

بينما بقيت نُخبة "أولياء الله" مُقيمة في المقرّ الرئيسي للحركة الفاطمية في إيكجان ومنها انطلقت حملات رامت تحقيق مجموعة من الأهداف، كان أهمّها، بالإضافة إلى إسقاط تيهرت (تيارت حالياً) عاصمة الرستميين الإباضية وما جاورها من الإمارات العلوية الزيدية في المغرب الأوسط، هو تحرير المهدي القادِم من السلمية والذي وقع أسيراً عند المدراريين (18).

حقَّق الكتاميون تلك الأهداف مُجتمعة في ظرفٍ قياسيٍ، وعادوا بإمامهم عبد الله المهدي إلى إيكجان في 910م، لكنه لم يطل بها المقام، حيث قرَّر الانتقال إلى رقَّادة مُغادراً بذلك موطِن كتامة ومُعلناً مرحلةً جديدةً في تاريخ الحركة الفاطمية: هي بناء الدولة.

لا يمكن فَهْم قرار المهدي الفاطمي بترك منطقة مواليةٍ، كانت فعلياً، مهد ثورته ومصدر قوَّته العسكرية والدَعَوية ودار هجرةٍ بالنسبة إلى أنصاره، نحو رقَّادة في تونس الحالية، دونما أن نعرف أساس المشروع الإسماعيلي في المغرب، خصوصاً وأن الكثير من الباحثين كهانتس هالم ومايكل بريت وسمية حمداني يتَّفقون على وجود دار الهجرة الإسماعيلية في مواطِن كتامة قبل الانتقال إلى تونس(19).

ذلك أن المشروع الكتامي وإنْ لم يختلف عن الحركات الدَعَوية الإسماعيلية الأخرى التي استهدفت مناطق عديدة من العالم الإسلامي؛ البحرين، بلاد السند، الهند، العراق، اليمن، بلاد فارس، مصر، إلا أن نجاحه الباهِر في المغرب، جعل من تحقيق الهدف الرئيس للمشروع الإسماعيلي ككل، وهو وراثة الخلافة العباسية في بغداد وحُكم كل العالم الإسلامي، على عاتِق الإسماعيليين المغاربة وحدهم، وتحقيق هذا الهدف الإمبراطوري تطلَّب التوجُّه شرقاً، وبناء قوَّة برية وبحرية ضارِبة (20) يكون هدفها السيطرة على غرب المتوسّط والأندلس كمرحلةٍ أولى لغزو المشرق ومواجهة النفوذ البيزنطي في شرق المتوسّط.

من هنا يُمكن فَهْم تأسيس مدينة المهدية في الساحل التونسي الشرقي وجعلها عاصمة للكيان الجديد بدل المناطق الجبلية الوعِرة لبلاد كتامة، وأيضاً فَهْم الاهتمام الذي أبداه الفاطميون منذ المرحلة المغربية بجزيرة صقلية وكالابريا (في إيطاليا الحالية) لأهدافٍ اقتصاديةٍ وتجارية، ولمُراقبة مدخل غرب المتوسّط (21)، لقد عرفت كتامة إذن كيف تستثمر فائض قوَّتها القتالية والديموغرافية في تحويل المشروع الفاطمي إلى رافدٍ إيديولوجي لحركةٍ وحدويةٍ كُبرى.           

تمكَّن الكتاميون تحت الراية الفاطمية من التوسّع باتجاه غرب المغرب الأوسط وتحقيق انتصارات عسكرية كُبرى، كانت البداية مع إسقاط مُلْك الرستميين الإباضية في تيهرت، لكن المقاومة العنيفة التي أبدتها القبائل البربرية الزناتية دفعت المهدي إلى عقد تحالفاتٍ سياسيةٍ معها خصوصاً وأن الكثير منها بدأ في ربط اتصالاتٍ مع أعدائه الأمويين في قرطبة، فنجح في استمالة قبيلة مكناسة (22)، فكانت تلك "البراغماتية السياسية" التي تكتفي من الحلفاء بالتأييد السياسي من دون الالتزام العقائدي، بدايةً لمنهجٍ سوف يطبع الكثير من القرارات التي اتخذها المهدي ثم خلفاؤه من بعده في المرحلة المغربية كما المشرقية.

واصل الكتاميون بمساعدةٍ من حلفائهم الزناتيين الجُدُد زحفهم نحو المغرب الأقصى، فأسقطوا حٌكم الأدارسة في فاس، وإمارة بني صالح التي حكمت منطقة الريف في شمال المغرب الأقصى، وصولاً إلى إسقاط إمارة سجلماسة الصفرية في جنوب شرقه. 

أصبح المغرب الأقصى ميداناً لصراعٍ عنيفٍ بين الفاطميين الكتاميين والأمويين الذين تحالفوا مع القبائل الزناتية في المغرب الأوسط رغم ما بينهما من خلافٍ عقائدي. كان طموح الأمويين في الأندلس من خلال دعم قبائل زناتة هو إنهاء الوجود الفاطمي في تيهرت وفاس، وقد تمكَّنوا فعلاً من السيطرة على الشلف وقرية العلويين في الضاحية الشمالية لتلمسان (تُسمَّى اليوم عين الحوت)، ونجحوا باستعمال أسطولٍ بحري، في السيطرة على سبتة ونكور ومليلة (شمال المغرب الأقصى الحالي) وعلى أرشكول (رشقون في غرب الجزائر حالياً). لكن الكتاميين سُرعان ما سحقوا هذا الهجوم وأعادوا الحُكم الفاطمي إلى تلك المناطق. وإنْ كان المهدي الفاطمي قد نجح في استمالة بعض بربر زناتة لأغراض الحفاظ على إبقاء نفوذه على بعض مناطق المغرب الأوسط، فإنه من باب أولى أن يُفكّر في التحالف السياسي مع قبيلة صنهاجة وهي الأقرب إلى كتامة كما سبق وأن ذكرنا، وقد نجح الفاطميون فعلاً في ذلك. 

فقد أظهرت صنهاجة ولاءً شديداً لراية المهدي الفاطمي لكنه لم يكن بنفس درجة الحِدَّة العقائدية التي كانت لدى حليفتها كتامة، وفي عهد إبنه القائم، لعبت أدواراً عسكرية إلى جانب الكتاميين في الكثير من المعارك أهمّها القضاء على أخطر ثورةٍ خارجيةٍ، انطلقت من جبال الأوراس في شرق الجزائر الحالية، كادت أن تُطيح الحُكم الفاطمي من أساسه بقيادة مُخَلَّد بن كداد اليفرني المعروف بصاحب الحمار، لكن دورها الحاسِم بلا أدنى شكّ، ظهر لاحقاً، بعد قرار الانتقال إلى مصر وبداية المرحلة المشرقية لكتامة وللإمبراطورية الفاطمية.  

كتامة في مصر.. بداية المرحلة المشرقية

كان الحُلم الإمبراطوري الفاطمي يتجاوز بالتأكيد بلاد المغرب، ليطمح إلى السيطرة على بغداد عاصمة العباسيين، بل وعلى القسطنطينية عاصمة البيزنطيين كما كتب هانتس هالم، وكل ما حقَّقه الفاطميون من إنجازاتٍ وما اتّخذوه من قراراتٍ في المرحلة المغربية، كالانتقال من بلاد كتامة في شرق الجزائر إلى الساحل التونسي، وتأسيس المهدية، وبناء قوَّةٍ بحريةٍ فعَّالة للسيطرة على مدخل البحر المتوسّط في صقلية، إنما كان من أجل تحقيق هذا الحُلم، الذي كان يمرّ حتماً عبر السيطرة على مصر. لذا لم يتوان الكتاميون تحت راية الفاطميين من إطلاق الحملات العسكرية لغزو مصر، الواحدة بعد الأخرى، منذ عصر المهدي الفاطمي، كان أبرزها تلك التي تمكَّن فيها المغاربة بقيادة القائد الكتامي حباسة بن يوسف الملوسي والقائم بالله في عهد حُكم والده المهدي من احتلال الإسكندرية في سنة 914م، بل وصل الفرسان الكتاميون إلى دلتا النيل في منطقةٍ قريبةٍ من الجيزة، وقد مثّلت الإسكندرية بالذات نقطة ارتكازٍ مهمة للمشروع الإمبراطوري الإسماعيلي لأهميّتها الاقتصادية والعسكرية خصوصاً للبحرية الفاطمية الصاعِدة، تحوَّلت المدينة فعلاً في العهد الفاطمي إلى الميناء الأهمّ والبوّابة الرئيسية المُشرفة على شبكة التجارة مع أوروبا والأندلس وشمال إفريقيا، وكذا تجارة التوابِل والأقمشة والأعشاب الطبيّة القادمة من المحيط الهندي كما كتب في هذا الصَدَد الباحَث برامولي المُتخصِّص في التاريخ الإسلامي الوسيط (23).

لكن حملة القائم فشلت بعد وصول تعزيزاتٍ من الشام التي كانت إقليماً عباسياً كمصر، فدارت معركة عنيفة انتصر فيها رُماة القوس الشاميون بقيادة تكين التركي، على فُرسان الرماح الكتاميين، وانسحب من الإسكندرية، ثم توالت الحملات لعقودٍ من الزمن إلى أن تمكَّن رابع الخلفاء الفاطميين المُعزّ بالله من إتمام ما عجز أجداده عنه، وليس هنا مجال سرد تفاصيل الظروف التي أنجحت مهمة المُعزّ.

لكن السياق عموماً تميَّز بأزمةٍ اقتصاديةٍ كُبرى، وبانتشار المجاعة والأوبئة، ضربت مصر في تلك الفترة أضعفت موقع الحُكّام الإخشيديين الذين حكموا باسم العباسيين، مع نزوعٍ دائمٍ نحو الاستقلال، زادها الاختراق البيزنطي لشمال بلاد الشام (شمال سوريا الحالية) وتصاعُد هجمات القرامِطة (الذين أظهروا العداء للإسماعيليين المغاربة في ظلّ قيادة أحمد بن سعيد الجنابي وإبنه الأعصم) في جنوبها مع تهديدهم لطُرُق الحج، ولم يعد للعباسيين في بغداد من قوَّةٍ سوى سلطة إسمية يحكم من خلفها البويهيون.

ولكن أيضاً بنشاطٍ كثيفٍ وفعَّال لشبكة الدعاية الفاطمية في الأوساط المصرية، خصوصاً "طبقة التجار" التي رأت في الفاطميين فرصة سانِحة للخلاص من الأزمة في البلاد وساهمت في تهيئة المجتمع المصري لذلك، وقد كانت الإسكندرية خاصة في تلك الفترة مغربية الطابع، تعجّ بالدُعاة والتجّار وطَلَبة العِلم من المغاربة (24). 

ولم تثن مُلاءمة الظروف لغزو مصر المُعزّ من حشد كل الطاقات البشرية والمالية والعسكرية، فعيَّن جوهر الصقلي على رأس جيوش الفاطميين بغالبيةٍ كتامية. لم تكن حملة المُعزّ بسبب الظروف المؤاتية التي سبق ذِكرها، بنفس درجة العنف وحِدَّة المعارك التي رافقت الحملات السابقة، ففتحت الإسكندرية أبوابها للجُند الكتامي، وقد برز الدور الحاسِم للقائد الكتامي جعفر بن فلاح في هذه الحملة في سحق فلول الإخشيديين والكافوريين أو ممَّن ظلّ يرفع راية العباسيين في صعيد مصر، وانتقل المُعزّ مع أسرته وحاشيته، إلى الأرض المفتوحة الجديدة تارِكاً بلاد المغرب في عهدة حلفائه من بربر صنهاجة، وأشرف على التأسيس لخطابٍ دعائي فعَّال اعتمد على كَسْبِ شرعيةٍ في الحُكم محورها تأمين طُرُق الحج التي هدَّدها القرامِطة وردع هجمات البيزنطيين، وبسيوف الكتاميين تحوَّلت مصر إلى دار خلافة وعاصمتها القاهرة التي أمر ببنائها، وإلى مركزٍ للإسماعيلية في العالم الإسلامي، وبدأ النظام الجديد في إرساء نُظمٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ، أساسها رجالات كتامة الذين حازوا أعلى المراتب فيها، وحركةٍ عُمرانيةٍ جديدةٍ أضحى للمغاربة، وعلى رأسهم الكتاميون، النصيب الأكبر فيها من خلال مراكزهم العُمرانية في المدينة الجديدة، ومدارس فنية راقية في الرسم والغناء كتلك التي ترأَّسها توبة بن ميسرة الكتامي، كان لها عظيم الأثر على تاريخ الإسلام الحضاري والإمبراطوري.  

لكن الوصول إلى بغداد، الهدف الأسمى للمشروع الفاطمي، كان دونه ضغط القرامِطة واختراق البيزنطيين فبدأت المهمة الجديدة لكتامة وهي فتح بلاد الشام.  

كتامة في بلاد الشام.. العين على بغداد


كانت بلاد الشام تابعة لولاية مصر الإخشيدية وجزءاً من الخلافة العباسية، فكان من الطبيعي أن تتأثَّر بالأوضاع المُستجدَّة في مصر، فعاشت حالاً مُزرية من التفتت والضعف؛ تراجعت قوّة الحمدانيين في الموصل وحلب منذ وفاة سيف الدولة، ففتح ذلك المجال فعلياً أمام اختراقات مُتتالية للبيزنطيين فأسقطوا بلدات عديدة منها معرَّة النعمان وحماه وحمص ليصلوا غرباً نحو ضواحي طرابلس في الساحل، تعاظمت قوَّة القرامِطة الذين جنَّدوا بعض القبائل العربية في السهوب الشرقية لصالحهم، بعض تلك القبائل كبني عقيل أصبحت تُرابط على مداخل دمشق وتتحكَّم فيها، وتحالفوا مع بقايا الإخشيديين الفارّين من مصر تحت الراية العباسية، فهدَّدوا طُرُق الحج ونشروا الفوضى التي استغلَّتها فِرَق غير مُنضبطة من "الأحداث" رسَّخت حال التمرّد وعدم الاستقرار في البلاد، مع وَهْنٍ شديدٍ دبّ في المركز العباسي في بغداد أضحى معه الخليفة أداة طيِّعة في يد البويهيين، بقيادة عزّ الدولة بن بختيار، الطموحين للعب أدوار أكبر. 

أما مدن الساحل الشامي من ضواحي طرابلس شمالاً إلى غزَّة جنوباً مروراً بصيدا وصور، وباعتبارها كانت ثغوراً مُرابطة تمنع البيزنطيين من التوغّل في الأراضي الإسلامية، فقد كانت دوماً عُرضة لسياسات حُكَّام المركز المسلمين التي ساهمت في إحداث تحوّلات ديموغرافية واقتصادية كبيرة فيها.   

كان على كتامة وقائدها جعفر بن فلاح الكتامي أن يُنجِز مهمته ويستكمل ما بدأه في مصر في ظلّ هذه الظروف، فتحرَّك على الاتجاه السياسي أولاً محاولاً استمالة الولاة من خلال كُتبٍ أرسلها إليهم يدعوهم فيها إلى مُبايعة المُعزّ، وفي عَقْدِ تحالفاتٍ سياسيةٍ بغية تحييد ما أمكن من القوى، وفيما نجح في كَسْب ودّ عرب مُرَّة وفزارة، فقد أخفق في المهمة مع أهل دمشق الذين أظهروا معارضة شديدة للفاطميين و"بسطوا ألسنتهم بذمّ المغاربة" (بالتعبير الذي نقلته لنا بعض المصادر العربية)، لذا يصعب علينا الركون إلى رأي المُستشرق الفرنسي تييري بيونكي الذي اعتبر القائد الكتامي جعفر بن فلاح فاقِداً للحِنكة السياسية (25)، ولعلَّ ذلك التعارُض الشديد بين الشاميين والمغاربة الفاتحين هو الذي ألهم الثقافة العامية المصرية في تلك الفترة لصوغ مثال شعبي، لا يزال يُتداول إلى الآن :"ايه لمّ الشامي عالمغربي".

بدأ جعفر بن فلاح حملته على الشام في 970م بجيشه الكتامي، فهزم تجمّعاً للقرامِطة والإخشيديين في الرملة ثم سار نحو طبرية في الجليل الشرقي (وهي مدن في فلسطين المحتلة حالياً) فأسقطها وهزم حاميتها وقد كانت المدينة من مجالات نفوذ قبيلة بني عقيل القوية التي امتدّت في مناطق شاسِعة وخصبة في الشام في نهر الأردن وحوران والبقاع (في المناطق المُحاذية لبعلبك في لبنان الحالي)، وصولاً إلى حمص والسلمية، ليتوجّه بعدها نحو دمشق، التي قاتل بعض أهلها مع مجموعات "الأحداث" فيها إلى جانب عرب بني عقيل المُرابطين على مداخلها ومَن تبقَّى من جيش الوالي الإخشيدي الذي فرَّ واستسلم للمغاربة، فسحق مقاومتهم، وكسر شوكة بني عقيل في حوران والغوطة بمساعدةٍ من قبيلتي مُرَّة وفزارة، ودخل دمشق في نفس السنة، وأقام الدعوة للمُعزّ الفاطمي في المسجد الأموي، وقد أثَّر العداء الذي أبداه أهل المدينة تجاه المغاربة الفاطميين في أسلوب تعامُل الكتاميين معهم.

إن أهمّ ما يمكن استنتاجه من اختلاف ظروف هذه الحملة مُقارَنة بمثيلتها في مصر، بعيداً عن كل ما كُتِب عن قسوة الكتاميين وتشدّدهم الديني، هو أن الفاطميين لم تكن لديهم في بلاد الشام شبكة فعَّالة من المُمهِّدين لقدومهم كما في الحال المصرية، ولم يتمكَّنوا، لأسبابٍ عديدةٍ  تفتح المجال لفرضيات عديدة قد يطول ذِكرها، من استمالة فئات اجتماعية واسعة في دمشق كما في المدن الساحلية التي سقطت تباعاً بيد المغاربة.

ثم احتلّوا حمص والسلمية ذات الرمزية الكبيرة للمشروع الفاطمي، ليتوجَّهوا إلى مواجهة البيزنطيين في شمال سوريا الحالية بقيادة فتوح الكتامي نائب جعفر بن فلاح لتحرير أنطاكية، وهنا يُطرَح السؤال عن الأسباب الكامِنة وراء قرار المغاربة الفاطميين بالتعجيل للاصطدام بالبيزنطيين في أقصى الشمال، بعد سنةٍ كاملة من المعارك العنيفة ضدّ تحالفٍ غير طبيعي ضمَّ قوىً مُتعارِضة إيديولوجيا تحرَّكت كلها تحت الراية العباسية؛ القرامِطة والحمدانيين والبويهيين، بدل تحويل دمشق إلى قاعدة انطلاق لحشد القوى من أجل تحقيق الهدف الأول للثورة الفاطمية منذ مرحلتها المغربية وهو السيطرة على بغداد، ويصعب بالتأكيد ترجيح فرضية من الفرضيات المطروحة؛ دعم الشرعية الفاطمية من خلال جهاد الروم، حرمان العراق العباسي من ثغور البحر المتوسّط...الخ، على كلٍّ، فشلت الحملة الكتامية في الشمال وعادوا إلى دمشق، ولم يظفروا بغير إقامة الدُعاء للمُعزّ الفاطمي في مسجد حلب (26). 

استغلّ القرامِطة، الذين حرمهم المغاربة الفاطميون مما كانت تدرّه عليهم بلاد الشام من ثروة، ذلك الفشل أمام البيزنطيين، وخطأ في التقدير في المُعسكر الكتامي، لينقضّوا على جعفر بن فلاح وجُنده فقتلوه، وعادوا إلى دمشق من جديد، بل وجمعوا حلفاءهم من بعض عرب بني عقيل وطيء، وقصدوا مركز الخلافة الفاطمية نفسها، لكن الكتاميين بقيادة جوهر الصقلي، ردّوهم على أعقابهم وقمعوا بشدَّة ثورة داخلية مُتزامنة مع الهجوم في الفسطاط، خصوصاً بعد المَدَد الذي وصل إلى مصر من بلاد كتامة في المغرب بقيادة قائدٍ كتاميٍ بارز هو الحسن بن عمار.

بعد سحق هذه المحاولة الجريئة للقرامِطة لتهديد النظام الفاطمي قرَّر المُعزّ استعادة بلاد الشام، وأوكل المهمة إلى إبراهيم بن جعفر بن فلاح فنجحت كتامة من جديد في إرجاع الشام ولاية فاطمية وسحق القوى المُناوئة لهم في الشام من القرامِطة و"الأحداث" المُشاغبين خاصة، الذين أباد القائد الكتامي جيش بن الصمصامة قادتهم عن بكرة أبيهم.

أما مدن الساحل الشامي في طرابلس وجبيل وصور وصيدا (في لبنان الحالي) وعكا وعسقلان (في فلسطين المحتلة حالياً)، فقد عَمَد النظام الإداري الفاطمي إلى إعطاء ولاتها الكتاميين غالباً (كما معظم ولاة المدن الشامية الداخلية)، الذين عيَّنهم الخليفة الفاطمي في القاهرة، استقلالية في تسيير شؤونها (27)، وقد عرفت ازدهاراً اقتصادياً مشهوداً في العهد الفاطمي جذب إليها هُجرات أحدثت فيها تغييرات ديموغرافية كبيرة، مع عدم الاستقرار في فتراتٍ معينةٍ بسبب الصِدام مع البيزنطيين أو نزوع بعضها نحو التمرّد، ومن الولاة الكتاميين الذين حكموا مدن بلاد الشام الساحلية؛ أبو الفتح إبن الشيخ في صيدا، فحلّ بن إسماعيل في صور، وبن الصمصامة وعلي بن جعفر بن فلاح وعبد الواحد بن حيدرة الذين تعاقبوا على حُكم طرابلس التي استقلّت في ما بعد على يد أسرةٍ كتاميةٍ من آل بن عمار، وفي المدن الداخلية كان جعفر بن كليد في حمص، منصور بن كراديس حاكم شيزر بالقرب من حماه، وصفي الدولة بن علي في حلب، وغيرهم (28).  

كتامة والمشارقة.. الحرب على النفوذ


كانت كتامة هي قلب الإمبراطورية الفاطمية وقُطب جيشها وجهازها الإداري، وقد حافظت على موقعها منذ عصر المؤسِّس المهدي الفاطمي إلى غاية عصر خامس خلفائها العزيز بالله (975-996م)، الذي حاول موازنة نفوذ المغاربة باستقدام جنودٍ من شعوبٍ مشرقية هي الترك والديلم، فاندلعت حرب عنيفة بين الكتاميين الذين استماتوا في الدفاع عن نظامٍ، كانوا هم نواة تأسيسه وأنقذوه من السقوط في فتراتٍ مختلفة، وبين المَشارِقة الذين راموا الحفاظ على مواقعهم الجديدة داخل منظومة الحُكم الفاطمية، كانت لتلك الحرب الطويلة تداعيات كبيرة على استقرار الدولة بل وعلى النظام الفاطمي نفسه. 

ثار الكتاميون على العزيز بالله، لكن استياءهم وصل ذروته في أول عهد خليفته الحاكِم بأمر الله (996-1021م)، حين رفضوا مُبايعته، واشترطوا أن يُرجِع لهم مواقعهم في النظام للقبول بحُكمه، فكان لهم ذلك فبرز شيخهم الحسن بن عمار كرجلٍ ثانٍ في الحُكم إثر تعيينه في منصب "أمين الدولة"، فأعاد هيمنة قبيلته على مفاصِل الدولة الإدارية والعسكرية والمالية، فما كان من الأتراك في مصر إلا أن جمعوا قواهم مُستعينين بأتراك الشام بقيادة قائدهم منجوتكين الذي حشد جيشاً بستة آلاف من الجُند الأتراك، وفق أغلب المصادر، لاقاهم إبن عمار في عسقلان (في فلسطين المحتلة الحالية) بجيشٍ كتاميٍ بقيادة سليمان بن جعفر بن فلاح الكتامي، فهزمهم وأسر قائدهم منجوتكين.

لكن تلك الهزيمة التي مُنيَ بها الأتراك في بلاد الشام لم تُخْمِد الصراع، بل أجَّجته، لينقلب الحاكِم على كتامة من جديد فعمدوا إلى اغتياله، وفي عهد خليفته الظاهر (1021-1036) عادت كتامة وهزمت المشارقة (الأتراك) من جديد، واستمرّ الكتاميون المغاربة في مقاومة سياسة الخلفاء الفاطميين في استقدام العناصر المشرقية، من الأتراك أو من الأرمن في عهد المُسْتَنْصِر (1036-1094م) بقيادة بدر الجمالي، ثم سجَّلت لنا المصادر العربية وقوف كتامة إلى جانب المُستعلي بالله في وجه أخيه نزار في الصراع الذي كانت تداعياته خطيرة على الحركة الإسماعيلية في العالم الإسلامي.

بدأ نفوذ كتامة يضعف حتى غاب عن الساحة المصرية والمشرقية تماماً إلى غاية سقوط الإمبراطورية الفاطمية نهائياً في 1171م، بينما ضمَّ موطنهم في المغرب (ملاَّلة، واد غير حالياً في ضواحي بجاية شرق الجزائر) في العقد الثاني من القرن 12م، لقاءً تاريخياً جمع بين شابٍ طموحٍ من المغرب الأوسط إسمه عبد المؤمن بن علي، مع مهديٍ آخر من قبيلة مصمودة في المغرب الأقصى إسمه محمد بن تومرت، كان النواة الأولى لثاني أقوى إمبراطورية في تاريخ المغرب هي الإمبراطورية المُوحِّدية.    

وفي حقيقة الأمر، لم تكن سياسة الخلفاء الفاطميين باستقدام عصبياتٍ جديدةٍ لإحداث توازن يمنع احتمال استئثار العصبية الأولى بالحُكم، نشازاً في تاريخ السلالات الحاكمة، وقد بدأت بوادرها في عهد المؤسِّس المهدي، من خلال اتخاذه حرساً خاصاً من عبيد زويلة أو من الصقالبة.

ورغم كل ما يمكن أن يُساق من فرضياتٍ بعْديةٍ لتبرير لتلك السياسة، إلا أن التخلِّي عن قبيلةٍ مُقاتلةٍ ووفيةٍ للخط العقائدي للدولة وتعويضها بقوىً غير مُندمجةٍ في إيديولوجية الإمبراطورية، وليست معنية على المدى البعيد بتحقيق مشاريعها، كانت نتيجته الحتمية هي سقوط الإمبراطورية نفسها، والسؤال الافتراضي الذي يُطرَح هو عن قُدرة هذه القبيلة في تحقيق حلم الفاطميين الأول في الوصول إلى بغداد، في ما لو استمرت كنواةٍ للجيش الفاطمي في مصر والمشرق، بناءً على أدائها القتالي (وهو موضوع يستحق التعمَّق أكثر) منذ نشأة الحركة، وقُدراتها على الحشد من خلال ضمانها للمَدَد من بطونها أو من حلفائها من صنهاجة في المغرب.

 الهوامش:
1 - من تلك النقوش ما اكتشِف في فدولس بين ولايتي جيجل وميلة، أنظر: موسى لقبال، كتامة ودورها في الخلافة الفاطمية منذ تأسيسها إلى مُنتصف القرن الخامس الهجري(11م)، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر،1979، ص95.

2- ذكرها بطليموس للتعبير عن مجموعةٍ سكانيةٍ تسكن المناطق المُحاذية لوادي الرمال في شرق الجزائر بين ولايتي ميلة وقسنطينة، وقد كانت تُسبِّب المتاعب للسلطة المركزية الرومانية سواء في عهد موريطانيا القيصرية (ثم السطيفية بعد303م) أو في العهد النوميدي، ومن أجل تفاصيل أكثر حول علاقة تلك القبائل بالسلطة الرومانية أنظر: Jean-Pierre Laporte, « Ketama, Kutama », [En ligne], p1 

3 - حول Respublica Vahartanensium أنظر: Michel christol , Youcef aibéche, Antiquités africaines, « l’Afrique du nord de la préhistoire à la conquête arabe »,  2007, n°43, p 47-67 

4 - كانت المواجهات المُسلّحة بين قبائل كتامة والسلطة الرومانية المركزية تتصاعد في فترات تصدير الحبوب نحو روما التي تنتجها سهول سطيف، وقد كان التصدير يمرّ حتماً عبر مضاربها، وتتصاعد أيضاً عندما تنزل من مقار سكناها في الجبال نحو السفوح والسهول المُحاذية لحاجتها هي نفسها لزراعة الحبوب.

5- عاشت قبيلة أوربة، التي آلت إليها رئاسة البربر في المغرب الأوسط في فترة الفتوحات كما يُحدّثنا إبن خلدون في تاريخه، في جبال وسهول المغرب الأوسط (الجزائر الحالية)، واصطدمت بقوّةٍ مع العرب المسلمين الفاتحين، بقيادة كسيلة إبن لمزم الأَوْرَبي البرنسي، وانتصرت عليهم في معركة تهودة الشهيرة سنة 682م في الزَّاب(تقع حالياً في مدينة سيدي عقبة في جنوب شرق الجزائر) التي خسرت فيها جيوش الفتح الإسلامي قائدها عقبة بن نافع الفهري، ثم اعتنقت الإسلام المُعتزلي بعد أن هجرت بطونٌ منها مواطنها الأصلية باتجاه مناطق كتامة، وجبال الونشريس في غرب الجزائر، وبدرجةٍ أكبر نحو منطقة وليلي في المغرب الأقصى حيث تبنّت الدعوة الإدريسية وشكَّلت قاعدةً اجتماعيةً للإسلام الزيدي الذي أسَّس أول دولةٍ شيعيةٍ زيدية في تاريخ الإسلام في المغرب الأقصى بقيادة إدريس بن عبد الله الكامل، ومعها إمارات سليمانية(نسبة إلى سليمان بن عبد الله الكامل شقيق إدريس) في مدن عديدة في غرب ووسط وجنوب شرق الجزائر الحالية تمتَّعت كل إمارة/مدينة منها باستقلالٍ كبير(تلمسان، رشقون، البويرة، تنس، المسيلة....).

6 - أسَّس أحد هذه المذاهب إمامة إباضية بقيادة عبد الرحمان إبن رستم ذي الأصول الفارسية الذي اتّخذ من تيهرت(مدينة تيارت في غرب الجزائر الحالية) عاصمة له، وبسطت تلك الإمامة نفوذها من المغرب الأوسط(الجزائر الحالية) وصولاً إلى جبل نفوّسة في المغرب الأدنى(ليبيا الحالية) مروراً بمناطق واسعة من تونس الحالية.

7- عبد الرحمان إبن خلدون، المقدّمة، دار الجيل، بيروت، ص175.

8 - Wansbrough Johnn, “On Recomposing the Islamic History of North Africa”, the Journal of the Royal Asiatic Society of Great Britain and Ireland, N°02, 1969,  p161-170.

9 - عبد الله العروي، مجمل تاريخ المغرب، المركز الثقافي العربي، 2000، المغرب، ج3، ص 59.

10- موسى لقبال، ملحمة أبي عبد الله الايكجاني، المؤسَّسة الوطنية للكتاب 1990، ص20، 

11- Brett Michael, 2001, “The Rise of the Fatimids. The World of the Mediterranean and the Midlle East in the fourth century of the hijra, tenth century CE”, Leyde, p 90-91.  

12- فرحات الدشرواي، الخلافة الفاطمية في المغرب، ترجمة حمادي الساحلي، دار الغرب الإسلامي 1994، ص82.

13 - المقريزي، اتّعاظ الحنفا ج1، ص55، أبو الفدا، ج2 ص 68: موسى لقبال، كتامة ودورها في الخلافة الفاطمية، ص234.

14- الأغالبة سلالة عربية حكمت باسم العباسيين، إفريقية (تونس الحالية) وأجزاء من شرق ما أصبح يُصْطَلح عليه لاحقاً بالمغرب الأوسط وهو ما يُطابق الجزائر الحالية، واتَّخذت من القيروان عاصمة لها.

15- بوبة مجاني، دراسات إسماعيلية، مطبوعات جامعة منتوري قسنطينة، الجزائر، 2002-2003، ص95.

16- Halm Heinz, 1996, "The Empire of the Mahdi : the Rise of the Fatimids", trad. de l’allemand, Michael Bonner, Leyde, E. J. Brill Ibid, p 103-107.

17- Halm Heinz, 1996, Ibid, E. J. Brill, p101-107.

18- سلالة بربرية زناتية أسَّست إمارة خارجية على المذهب الصفري في سجلماسة في جنوب شرق المغرب الأقصى حالياً.

19 -  Halm Heinz, 1996, Ibid, p51-57.

Brett Michael, 2001, Ibid , p105-106.

Hamdani A. Sumaiya, 2006,” Between Revolution and State, The Path to fatimid Statehood. Qādī al-Nu‘mān and the Construction of  Fatimide Legitimacy”, Londres, I. B. Tauris, p6-7.

20 - Bramoullé David,  22-23-2017 « Financer l’activité navale fatimide en Égypte (973-1171)  Contraintes financières et enjeux politico-économiques », L’économie de la guerre navale, de l’Antiquité au XXe siècle, Revue d’histoire maritime, p. 44.

21 - Bramoullé David, 2014,  « LA SICILE DANS LA MÉDITERRANÉE FATIMIDE (XE-XIE SIÈCLE)  Dynamiques de l'islamisation en Méditerranée centrale et en Sicile : nouvelles propositions et découvertes récentes. (Collection de l'École française de Rome, p25

22- قبيلة بربرية زناتية تبنَّت المذهب الخارجي الصفري كانت تُقيم في موطنها الأصلي، على ضفاف وادي الشلف في غرب الجزائر الحالية.

23 - Bramoullé David, 2011, « Alexandrie, les Fatimides et la mer (969-1171) »

Alexandrie médiévale 4, édité par Christian Décobert, Jean-Yves Empereur et Christophe Picard, Centre d’études Alexandrines, p84-85.

24 - موسى لقبال، كتامة ودورها في الخلافة الفاطمية ، ص473.

25 - Thierry Bianquis,  « DAMAS ET LA SYRIE SOUS LA DOMINATION FATIMIDE (359-468/969-1076) ». TOME 1, Chapitre premier. La première conquête de la Syrie, https://books.openedition.org/ifpo/6444.

26 - نفس المصدر السابق

27 - Bramoullé David,  43-2009, « Les populations littorales du Bilad al-Sam fatimides et la guerre, Annales islamologiques, p306.

28 -  موسى لقبال، كتامة ودورها…، ص567-568.












ليست هناك تعليقات: