السبت، 24 أغسطس 2024

 الغربة الغربيّة قصة فيلسوف الإشراق "السهروردي" المقتول

يقول ان الطور بتونس والارض المقدسة.




     لمّا سافرتُ مع أخي عاصم من ديار ما وراء النهر إلى بلاد المغرب لنصيد طائفةً من طيور ساحل اللجّة الخضراء، فوقعنا بغتة في "القرية الظالم أهلها"، أعني مدينة قيروان. فلمّا أحسّ أنّنا قدمنا عليهم فجأة ونحن من أولاد الشيخ المشهور بالهادي بن الخير اليمانيّ، أحاطوا بنا، فأخذونا مقيّدين بسلاسل وأغلال من حديد، وحبسونا في مقعر بئر لا نهاية لسمكها. وكان فوق البئر المعطّلة التي عمّرت بحضورنا قصر مشيّد وعليها أبراج عدّة. فقيل لنا: لا جُناح عليكم إن صعدتم القصر متجرّدين إذا أمسيتم. أمّا عند الصبح فلا بدّ من الهُويِّ في غياب الجُبِّ.

وكان في قعر البئر ظلُمات بعضها فوق بعض، إذا أخرجنا أيدينا لم نكد نراها. إلاّ أنّا في آونة المساء نرتقي القصر مشرفين على الفضاء ناظرين من كُوّةٍ. فربّما يأتينا حماماتٌ من أيوك اليمن مخبِرات بحال الحمى. وأحيانا يزورنا بروق يمانيّة تومض من الجانب الأيمن الشرقيّوتُخبرنا بطوارق نجد ويزيدنا رياح الآراك وجدا على وجد. فنتحنّن ونشتاق إلى الوطن.

فبينا نحن في الصعود ليلا وفي الهبوط ليلا، إذ رأينا الهدهد دخل من الكوّة مسلّما في ليلة قمراء، وفي منقاره رقعة صُدّرت "من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشحرة" وقال لنا: إنّي أحطّت بوجه خلاصكما وجئتكما " من سبإ بنبإ يقين" وهو ذا مشروح في رقعة أبيكما.

فلمّا قرأنا الرقعة فإذا فيها أنّه من الهادي أبيكما وأنّه: بسم الله الرحمان الرحيم. شوّقناكم فلم تشتاقوا، ودعوناكم فلم ترتحلوا، وأشرناكم فلم تفهموا. وأشار في الرقعة إليّ بأنّك يا فلان: إن أردت أن تتخلّص من أخيك، فلا تنيا في عزم السفر، واعتصما بحبلنا وهو جوهر الفلك القدسيّ المستولي على نواحي الكسوف.

فإذا أتيت "وادي النمل" فانفض ذيلك، وقل الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني "وإليه النشور" وأهلِكْ أهلَك واقتلْ امرأتك "إنها كانت من الغابرين" وامض حيث تؤمر فـ"إنّ دابرَ هؤلاء مقطوع مصبحين" واركب في السفينة وقل "باسمالله مَجراها ومَرساها".

وشرح في الرقعة ما هو كائن في الطريق. فتقدّم الهدهد وسارت الشمسُ فوق رؤوسنا إذ وصلنا إلى طرف الظلّ. فركبنا السفينة وهي تجري بنا "في موج كالجبال" ونحن نروم الصعود على جبل طور سينا حتى نزور صومعة أبينا.

وحال بيني وبين ولدي "الموج فكان من المغرقين." وعرفت أنّ قومي "موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب؟" وعلمت أنّ "القرية التي كانتتعمل الخبائث" يجعل "عاليها سافلها" ويمطر " عليها حجارة منسجّيل منضود".

فلمّا وصلنا إلى موضع تتلاطم فيه الأمواج وتتدحرج المياه، أخذت ظئرى التي أرضعتني وألقيتها في اليمّ. وكنّا نسير في جارية "ذات ألواح ودسر". فخرقنا السفينة خيفة ملك وراءنا "يأخذ كلّ سفينة غصبا." والفلك المشحون قد مرّ بنا على جزيرة ياجوج وماجوج إلى الجانب الأيسر من الجوديّ. وكان معي من الجنّ من يعمل بين يدي، وفي حكمي عين القطر. فقلت للجنّ "انفخوا فيه حتى صار مثل النار". فجعلتُ سدّا حتى انفصلتُ عنهم.

وتحقّق "وعد ربّي حقّا" ورأيت في الطريق جماجم عاد وثمود، وطفت في تلك الديار "وهي خاوية على عروشها". وأخذت الثقلين مع الأفلاك وجعلتها مع الجنّفي قارورة صنعتها أنا مستديرة وعليها خطوط كأنّها دوائر. فقطعت الأنهار من كبد السماء. فلمّا انقطع الماء عن الرحى، انهدم البناء، فتخلّص الهواء إلى الهواء. والقيتُ فلك الأفلاك على السماوات حتى طحن الشمس والقمر والكواكب. فتخلّصتُ من أربعة عشر تابوتا وعشرة قبور عنها ينبعث ظلّ الله، حتى يقبضني إلى القدس "قبضا يسيرا" بعد أن "جعل الشمس عليه دليلا." ولقيثت سبيل الله، ففطنت "انّ هذا صراطي مستقيما". وأختي وأهلي قد أخذتها "غاشية من عذاب الله" بياتا. فباتت في قطع من الليل مظلما، وبها حمّى وكابوس يتطرّق إلى صرع شديد. ورأيت سراجا فيه دهن وينبجس منه نور ينتشر في أقطار البيت، ويشتعل مشكاتها ويشعل سكّانها من إشراق نور الشمس عليهم. فجعلت السراج في فم تنين ساكن في برج دولاب تحته بحر قلزم وفوقه كواكب ما عرف مطارح أشعّتها إلا بارئها "والراسخون في العلم."

ورأيت الأسد والثور قد غابا،والقوس والسرطان قد طُويا في طيّ تدوار الأقلاك، وبقي الميزان مستويا إذا طلع النجم اليمانيّ من وراء غيوم رقيقة متألّقة ممّا نسجته عناكب زوايا العالم العنصريّ في عالم الكون والفساد.

وكان معنا غنمٌ، فتركناها في الصحراء. فأهلكتها الزلازل ووقعت فيها نارٌ صاعقة. ولمّا انقطعت المسافة وانقرض الطريق "وفار التنّور" من الشكل المخروط، فرأيتُ الأجرام العلويّة، اتّصلتُ بها وسمعتُ نغماتها ودستاناتها، وتعلّمت إنشادها، وأصواتُها تقرع سمعي كأنّها صوت سلسلة تُجرُّ عل صخرة صمّاء، فتكاد تنقطع أوتاري وتنفصل مفاصلي من لذّة ما أنال. ولا يزال الأمر يتكرّر عليّ حتى انقشع الغمام وتخرّقت المشيمة. وخرجتُ من المغارات والكهوف حتى تقضّيتُ من الحجرات حتى تقضّيت من الحجرات متوجّها إلى عين الحيوة. فرأيتُ الصخرة العظيمة على قمّة جبل كالطود العظيم.فسألتُ عن الحيتان المجتمعة في عين الحيوة المتنعّمة المتلذّذة بظلّ الشاهق العظيم: إنّ هذا الطود ما هو؟ وما هذه الصخرة العظيمة؟

فاتّخذ واحد من الحيتان سبيله في البحر سربا. فقال "ذلك ما كنت تبغي. وهذا الجبل هو طور سيناء. والصخرة صومعة أبيك." فقلتُ "وما هؤلاء الحيتان؟"فقال "أشباهك، أنتم بنو أب واحد، وقع لهم شبيه واقعتك، فهم إخوانك."

فلمّا سمعتُ وحقّقت، عانفتُهم. ففرحت بهم وفرحوا بي. وصعدت الجبل، ورأيت أبانا شيخا كبيرا تكاد السماوات والأرض تنشقّ من تجلّي نوره. فبقيتُ باهتا متحيّرا منه. ومشيتُ إليه. فسلّم عليّ. فسجدتُ له وكدتُ أنمحق في نوره الساطع.

فبكيتُ زمانا وشكوتُ عنده من حبس قيروان. قال لي "نعمّا! تخلّصت. إلا أنّك لا بدّ راجع إلى الحبس الغربيّ، وإنّ القيد بعدما خلعته تامّا." فلمّا سمعت كلامه، طار غقلي وتأوّهت صارخا صراخ المشرف على الهلاك، وتضرّعتُ إليه.

فقال "أمّا العود فضروريّ الآن، ولكنّي أبشّرك بشيئين: أحدهما أنّك إذا رجعت إلى الحبس، يمكنك المجيء إلينا والصعود إلى جنّتنا هينا متى ما شئت. والثاني أنّك تتخلّص في الأخير إلى جنابنا تاركا البلاد الغربيّة بأسرها مطلقا."

ففرحتُ بما قال. ثمّ قال لي "اعلم أنّ هذا جبل طور سيناء. وفوق هذا جبل طور سينين مسكن والدي وجدّك، وما أنا بالإضافة إليه إلاّ مثلك بالإضافة إليّ.

ولنا أجداد آخرون حتى ينتهي النسب إلى الملك الذي هو الجدّ الأعظم الذي لا جدّ له ولا أب. وكلّنا عبيده، به نستضيء ومنه نقتبس، وله البهاء الأعظم وله الجلال الأرفع والنور الأقهر. وهو فوف الفوق ونور النور وفوق النور أزلا وأبدا. وهو المتجلّى لكلّ شيء، و"كلّ شيء هالك إلاّ وجهه."

فأنا في هذه القصّة، إذ تغيّر الحال عليّ وسقطت من الهواء في الهاوية بين قوم ليسوا بمؤمنين محبوسا في ديار المغرب. وبقي معي من اللذة ما لا أطيق أن أشرحه. فانتحبت وابتهلت وتحسّرت على المفارقة. وكانت تلك الراحة أحلاما زائلة على سرعة.

نجّانا الله من أسر الطبيعة وقيد الهيولى "وقل الحمد لله سيُريكم آياته فتعرفونها، وما ربّك بغافل عمّا تعملون" "وقل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون" والصلاة على نبيه وآله أجمعين.


                                             تمّت قصّة الغُربة الغربيّة  

                                         شهاب الدين يحي سهروردي

                                        مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق.



افضل ما قال السهرودي المقتول عليه السلام والرحمة

ﺃَﺑﺪﺍً ﺗَﺤﻦُّ ﺇِﻟَﻴﻜُﻢُ ﺍﻷَﺭﻭﺍﺡُ """ ﻭَﻭِﺻﺎﻟُﻜُﻢ ﺭَﻳﺤﺎﻧُﻬﺎ ﻭَﺍﻟﺮﺍﺡُ

ﻭَﻗُﻠﻮﺏُ ﺃَﻫﻞِ ﻭِﺩﺍﺩﻛﻢ ﺗَﺸﺘﺎﻗُﻜُﻢ """ ﻭَﺇِﻟﻰ ﻟَﺬﻳﺬ ﻟﻘﺎﺋﻜﻢ ﺗَﺮﺗﺎﺡُ

ﻭَﺍ ﺭَﺣﻤﺔً ﻟﻠﻌﺎﺷِﻘﻴﻦَ ﺗَﻜﻠّﻔﻮﺍ """ ﺳﺮّ ﺍﻟﻤَﺤﺒّﺔِ ﻭَﺍﻟﻬَﻮﻯ ﻓَﻀّﺎﺡُ

***

ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻬﻮﻯ ﻗﺴﻤﺎﻥ: ﻗﺴﻢ ﻣﻨﻬﻤﻮ """ ﻛﺘﻤﻮﺍ، ﻭﻗﺴﻢٌ ﺑﺎﻟﻤﺤﺒﺔ ﺑﺎﺣﻮﺍ

ﻓﺎﻟﺒﺎﺣﺌﻮﻥ ﺑﺴﺮﻫﻢ ﺷﺮﺑﻮﺍ ﺍﻟﻬﻮﻯ """ ﺻﺮﻓﺎً ﻓﻬﺰﻫﻤﻮﺍ ﺍﻟﻐﺮﺍﻡ ﻓﺒﺎﺣﻮﺍ

ﻭﺍﻟﻜﺎﺗﻤﻮﻥ ﻟﺴﺮﻫﻢ ﺷﺮﺑﻮﺍ ﺍﻟﻬﻮﻯ """ ﻣﻤﺰﻭﺟﺔً ﻓﺤَﻤﺘْﻬﻤﻮ ﺍﻷﻗﺪﺍﺡُ

***

ﺑِﺎﻟﺴﺮِّ ﺇِﻥ ﺑﺎﺣﻮﺍ ﺗُﺒﺎﺡُ ﺩِﻣﺎﺅُﻫﻢ """ ﻭَﻛَﺬﺍ ﺩِﻣﺎﺀُ ﺍﻟﻌﺎﺷِﻘﻴﻦَ ﺗُﺒﺎﺡُ

ﻭَﺇِﺫﺍ ﻫُﻢ ﻛَﺘَﻤﻮﺍ ﺗَﺤَﺪّﺙ ﻋَﻨﻬُﻢ """ ﻋِﻨﺪَ ﺍﻟﻮﺷﺎﺓِ ﺍﻟﻤَﺪﻣﻊُ ﺍﻟﺴَﻔّﺎﺡُ

ﺃَﺣﺒﺎﺑﻨﺎ ﻣﺎﺫﺍ ﺍﻟَّﺬﻱ ﺃَﻓﺴﺪﺗﻢُ """ ﺑِﺠﻔﺎﺋﻜﻢ ﻏَﻴﺮ ﺍﻟﻔَﺴﺎﺩِ ﺻَﻼﺡُ

ﺧَﻔﺾَ ﺍﻟﺠَﻨﺎﺡ ﻟَﻜُﻢ ﻭَﻟَﻴﺲَ ﻋَﻠَﻴﻜُﻢ """ ﻟِﻠﺼَﺐّ ﻓﻲ ﺧَﻔﺾِ ﺍﻟﺠَﻨﺎﺡ ﺟُﻨﺎﺡُ

ﻭَﺑَﺪَﺕ ﺷَﻮﺍﻫِﺪُ ﻟﻠﺴّﻘﺎﻡِ ﻋَﻠَﻴﻬﻢُ """ ﻓﻴﻬﺎ ﻟِﻤُﺸﻜﻞ ﺃﻣّﻬﻢ ﺇِﻳﻀﺎﺡُ

ﻓَﺈِﻟﻰ ﻟِﻘﺎﻛﻢ ﻧَﻔﺴﻪُ ﻣُﺮﺗﺎﺣﺔٌ """ ﻭَﺇِﻟﻰ ﺭِﺿﺎﻛُﻢ ﻃَﺮﻓﻪ ﻃَﻤّﺎﺡُ

ﻋﻮﺩﻭﺍ ﺑِﻨﻮﺭِ ﺍﻟﻮَﺻﻞِ ﻣِﻦ ﻏَﺴَﻖ ﺍﻟﺪُّﺟﻰ """ ﻓَﺎﻟﻬَﺠﺮُ ﻟَﻴﻞٌ ﻭَﺍﻟﻮﺻﺎﻝُ ﺻَﺒﺎﺡُ

***

ﺻﺎﻓﺎﻫُﻢُ ﻓَﺼَﻔﻮﺍ ﻟَﻪُ ﻓَﻘُﻠﻮﺑﻬﻢ """ ﻓﻲ ﻧُﻮﺭِﻫﺎ ﺍﻟﻤِﺸﻜﺎﺓُ ﻭَﺍﻟﻤِﺼﺒﺎﺡُ

ﻭَﺗَﻤَﺘّﻌﻮﺍ ﻓَﺎﻟﻮَﻗﺖُ ﻃﺎﺏَ ﻟِﻘُﺮﺑِﻜُﻢ """ ﺭﺍﻕَ ﺍﻟﺸّﺮﺍﺏ ﻭَﺭَﻗّﺖِ ﺍﻷَﻗﺪﺍﺡُ

ﻳﺎ ﺻﺎﺡِ ﻟَﻴﺲَ ﻋَﻠﻰ ﺍﻟﻤُﺤﺐِّ ﻣَﻼﻣَﺔٌ """ ﺇِﻥ ﻻﺡَ ﻓﻲ ﺃُﻓﻖ ﺍﻟﻮِﺻﺎﻝِ ﺻَﺒﺎﺡُ

ﻻ ﺫَﻧﺐَ ﻟِﻠﻌُﺸّﺎﻕِ ﺇِﻥ ﻏَﻠَﺐَ ﺍﻟﻬَﻮﻯ """ ﻛِﺘﻤﺎﻧَﻬُﻢ ﻓَﻨﻤﺎ ﺍﻟﻐَﺮﺍﻡُ ﻓَﺒﺎﺣﻮﺍ

ﺳَﻤَﺤﻮﺍ ﺑِﺄَﻧﻔُﺴِﻬﻢ ﻭَﻣﺎ ﺑَﺨِﻠﻮﺍ ﺑِﻬﺎ """ ﻟَﻤّﺎ ﺩَﺭﻭﺍ ﺃَﻥّ ﺍﻟﺴَّﻤﺎﺡ ﺭَﺑﺎﺡُ

ﻭَﺩﻋﺎﻫُﻢُ ﺩﺍﻋﻲ ﺍﻟﺤَﻘﺎﺋﻖِ ﺩَﻋﻮﺓ """ ﻓَﻐَﺪﻭﺍ ﺑِﻬﺎ ﻣُﺴﺘَﺄﻧﺴﻴﻦ ﻭَﺭﺍﺣﻮﺍ

ﺭَﻛِﺒﻮﺍ ﻋَﻠﻰ ﺳﻨَﻦِ ﺍﻟﻮَﻓﺎ ﻭَﺩُﻣﻮﻋﻬُﻢ """ ﺑَﺤﺮٌ ﻭَﺷِﺪّﺓ ﺷَﻮﻗﻬﻢ ﻣَﻠّﺎﺡُ

ﻭَﺍﻟﻠَّﻪِ ﻣﺎ ﻃَﻠَﺒﻮﺍ ﺍﻟﻮُﻗﻮﻑَ ﺑِﺒﺎﺑِﻪِ """ ﺣَﺘّﻰ ﺩﻋﻮﺍ ﻓَﺄَﺗﺎﻫُﻢ ﺍﻟﻤﻔﺘﺎﺡُ

ﻻ ﻳَﻄﺮﺑﻮﻥَ ﺑِﻐَﻴﺮِ ﺫِﻛﺮ ﺣَﺒﻴﺒِﻬﻢ """ ﺃَﺑَﺪﺍً ﻓَﻜُﻞُّ ﺯَﻣﺎﻧِﻬﻢ ﺃَﻓﺮﺍﺡُ

ﺣَﻀَﺮﻭﺍ ﻭَﻗَﺪ ﻏﺎﺑَﺖ ﺷَﻮﺍﻫِﺪُ ﺫﺍﺗِﻬﻢ """ ﻓَﺘَﻬَﺘّﻜﻮﺍ ﻟَﻤّﺎ ﺭَﺃﻭﻩ ﻭَﺻﺎﺣﻮﺍ

ﺃَﻓﻨﺎﻫُﻢ ﻋَﻨﻬُﻢ ﻭَﻗَﺪ ﻛﺸﻔَﺖ ﻟَﻬُﻢ """ ﺣﺠﺐُ ﺍﻟﺒﻘﺎ ﻓَﺘَﻼﺷﺖِ ﺍﻷَﺭﻭﺍﺡُ

ﻓَﺘَﺸَﺒّﻬﻮﺍ ﺇِﻥ ﻟَﻢ ﺗَﻜُﻮﻧﻮﺍ ﻣِﺜﻠَﻬُﻢ """ ﺇِﻥَّ ﺍﻟﺘَّﺸَﺒّﻪ ﺑِﺎﻟﻜِﺮﺍﻡِ ﻓَﻼﺡُ

ﻗُﻢ ﻳﺎ ﻧَﺪﻳﻢ ﺇِﻟﻰ ﺍﻟﻤﺪﺍﻡِ ﻓَﻬﺎﺗﻬﺎ """ ﻓﻲ ﻛَﺄﺳِﻬﺎ ﻗَﺪ ﺩﺍﺭَﺕِ ﺍﻷَﻗﺪﺍﺡُ

ﻣِﻦ ﻛَﺮﻡِ ﺃَﻛﺮﺍﻡ ﺑﺪﻥّ ﺩﻳﺎﻧَﺔٍ """ ﻻ ﺧَﻤﺮَﺓ ﻗَﺪ ﺩﺍﺳَﻬﺎ ﺍﻟﻔَﻠّﺎﺡُ

ﻫﻲَ ﺧَﻤﺮﺓُ ﺍﻟﺤُﺐِّ ﺍﻟﻘَﺪﻳﻢِ ﻭَﻣُﻨﺘَﻬﻰ """ ﻏَﺮﺽ ﺍﻟﻨَﺪﻳﻢ ﻓَﻨﻌﻢ ﺫﺍﻙَ ﺍﻟﺮﺍﺡُ

ﻭَﻛَﺬﺍﻙَ ﻧﻮﺡٌ ﻓﻲ ﺍﻟﺴَّﻔﻴﻨﺔ ﺃَﺳﻜَﺮَﺕ """ ﻭَﻟَﻪُ ﺑِﺬَﻟِﻚَ ﺭَﻧَّﺔً ﻭَﻧِﻴﺎﺡُ

ﻭَﺻَﺒَﺖ ﺇِﻟﻰ ﻣَﻠَﻜﻮﺗِﻪِ ﺍﻷَﺭﻭﺍﺡُ """ ﻭَﺇِﻟﻰ ﻟِﻘﺎﺀِ ﺳِﻮﺍﻩ ﻣﺎ ﻳَﺮﺗﺎﺡُ

ﻭَﻛَﺄَﻧَّﻤﺎ ﺃَﺟﺴﺎﻣﻬُﻢ ﻭَﻗُﻠﻮﺑﻬُﻢ """ ﻓﻲ ﺿَﻮﺋِﻬﺎ ﺍﻟﻤِﺸﻜﺎﺓُ ﻭَﺍﻟﻤِﺼﺒﺎﺡُ

ﻣَﻦ ﺑﺎﺡَ ﺑَﻴﻨَﻬُﻢ ﺑِﺬِﻛﺮِ ﺣَﺒﻴﺒِﻪِ """ ﺩَﻣﻪُ ﺣﻼﻝٌ ﻟِﻠﺴّﻴﻮﻑِ ﻣُﺒﺎﺡُ


ـــــــــــــــــــــــــــــــــ



عودوا بِنورِ الوَصلِ مِن غَسَق الدُّجى***فَالْهَجْرُ لَيْلٌ وَالْوصَالُ صَبَاح

صافاهُمُ فَصَفَوَا لَهُ فَقُلُوبُهُمْ ****فِي نُورِهَا الْمِشْكَاةُ وَالْمِصْبَاحُ

وَتَمَتّعوا فَالْوَقْت طَابَ لِقُرُبِكُمْ***رَاقَ الشُّرَّابُ وَرَّقْتِ الْأَقْدَاح


خلقَت هَياكِلُها بِجَرعاءِ الحِمى


وَصَبت لِمَغناها القَديم تَشَوّقا


مَحجوبَة سَفرت وَأَسفَر صُبحها


وَتَجَرَّدت عَمّا أَجدّ وَأَخلقا


وَتَلَفّتت نَحوَ الدِّيارِ فَشاقَها


رَبع عَفَت أَطلالُهُ فتَمَزَّقا


وَغَدَت تردّدُ في الفَضاءِ حَبيبها


فَيَروم مُرتَبِعاً يَروق المُرتقى


وَقَفَت تُسائِلُه فَرَدَّ جَوابَها


رَجعَ الصَّدى أن لا سَبيلَ إِلى اللّقا


فَشَكَت بِعَينِ الحالِ مَعهَد عَهدِها


أَسَفاً عَلى شَملٍ مَضى وَتَفَرَّقا


فَكَأَنَّما بَرقٌ تَأَلّق بِالحِمى


ثُمَّ اِنطَوى فَكَأَنَّهُ ما أَبرَقا



هو شهاب الدين أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك (1) المعروف بالشيخ الحكيم المقتول؛ ولد نحو سنة 550 ه‍ (1155 م) .


قرأ شهاب الدين السهروردي الحكمة و أصول الفقه على الشيخ مجد الدين الجيلي بمدينة المراغة (آذربيجان) . ثم انه تطوّف في البلاد و أقام مدة في بلاط قليج أرسلان الثاني (551-588 ه‍) في قونية (بلاد الروم: آسية الصغرى) ، و زار دمشق و ميّافارقين. و يبدو أن السهرورديّ كان في المشرق فأتي إلى بغداد و أقام فيها مدّة صحب في أثنائها الشيخ فخر الدين الماردينيّ فأسرّ السهرورديّ إلى الشيخ فخر الدين بأشياء كثيرة منها أنه يريد أن يملك العالم، فكان الشيخ فخر الدين يتخوّف عليه عواقب آرائه.


في سنة 579 ه‍ (1183 م) غادر السهرورديّ بغداد الى حلب و أخذ بنشر مذهبه فيها فثار عليه العلماء من أهل السنّة و شكوه الى أمير المدينة الملك الظاهر بن صلاح الدين الأيّوبيّ؛ فجمع الملك الظاهر بين السهرورديّ و بين أولئك العلماء في مجلس للمناظرة؛ فيقال إنّ السهرورديّ تغلّب عليهم بالجدال. ثم صدرت عنه أقوال و أعمال من الإلحاد و المخرقة فثار عليه الناس فرأت الدولة في أقواله و أعماله خطرا كبيرا؛ فأمر صلاح الدين ابنه الملك الظاهر بقتل السهرورديّ فقتل السهرورديّ في قلعة حلب في 5 رجب 587 (29-7-1191 م) .


كان السهرورديّ المقتول في أول أمره فقيها شافعيّا و أصوليّا (2)، كما كان ملمّا بعدد من علوم الأوائل، و خصوصا في الفلسفة و الكيمياء و السيمياء فيما قيل. ثمّ إنه اتّخذ مذهبا صوفيّا متطرّفا (3) فارق به رأي أهل السنّة و الجماعة في الدين. و مزج السّهرورديّ المقتول مذهبه الصوفيّ بشيء من فلسفة أرسطو (المادّية الواقعية) و بشيء من المذهب الاسكندرانيّ القائم على جوانب من آراء فيثاغوراس و أفلاطون تميل إلى تفسير الوجود المادّيّ تفسيرا روحانيا؛ كما استمدّ عددا من آرائه الطبيعية و الماورائية، في الفيض خاصّة، من إخوان الصفا و ابن سينا. أما عمدة السّهرورديّ في تصوّفه فكانت الإشراق أو حكمة الإشراق، و ذلك أنّ الوجود نفسه من نور، و انّ النور جوهر الوجود و حقيقته، و أنّ اللّه نفسه نور، بل هو نور الأنوار؛ و أن معارفنا تأتي إلينا، من طريق الإشراق: من ذلك النور. و لكن كان يلمح في أقواله اعتقاد بالهين اثنين: إله النور و إله الظلمة.


و لقد عبّر السهرورديّ المقتول عن ذلك كلّه نثرا و شعرا باللغتين العربية و الفارسية على طريقة أهل التصوّف. و له مصنّفات منها: التلويحات اللوحية و العرشية - المقامات (و هو لواحق على التلويحات) -المشاريع و المطارجات- -اللمحات-الالواح العمادية-رسالة في وصف العقول. و له في التصوّف و الفلسفة: هياكل النور-حكمة الاشراق-مقامات الصوفية و معاني مصطلحاتهم- المناحاة-الأربعون اسما الإدريسية-الغربة الغربية (على مثال رسالة الطير و حيّ بن يقظان لابن سينا، أشار فيها الى حديث النفس) -بستان القلوب - كشف الغطاء لإخوان الصفاء-المعارج-الكلمات الذوقية و النكات الشوقية.


مختارات من شعره:


-أجود شعر السهروردي المقتول قصيدته الحائية المشهورة، و فيها كثير من تعابير الصوفية (و سأشرح في الحاشية عددا من الألفاظ التي لا بدّ من شرحها. أما شرح المدارك الصوفية فيها فأمر يطول، ثم هو قابل للأخذ و الردّ) .


أبدا تحنّ إليكم الأرواح... و وصالكم ريحانها و الراح (4)


و قلوب أهل ودادكم تشتاقكم... و إلى لذيذ لقائكم ترتاح


و ارحمتا للعاشقين! تكلّفوا... ستر المحبّة، و الهوى فضّاح


بالسرّ إن باحوا تباح دماؤهم... و كذا دماء البائحين تباح (5)


صافاهم فصفوا له، فقلوبهم... في نورها المشكاة و المصباح (6)


فتمتّعوا، و الوقت طاب بقربهم... راق الشراب و رقّت الأقداح


لا ذنب للعشّاق إن غلب الهوى... كتمانهم، فنما الغرام فباحوا


سمحوا بأنفسهم و ما بخلوا بها... لما دروا أنّ السماح زباح (7)


و دعاهم داعي الحقائق دعوة... فغدوا بها، مستأنسين، و راحوا (8)


لا يطربون لغير ذكر حبيبهم... أبدا، فكلّ زمانهم أفراح (9)


حضروا فغابوا عن شهود ذواتهم... و تهتّكوا لما رأوه و صاحوا (10)


أفناهم عنهم-و قد كشفت لهم... حجب البقا-فتلاشت الأرواح (11)


فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم... إن التشبّه بالكرام فلاح




الباحث التونسي محمد علام الدين العسكري.



ليست هناك تعليقات: