تعلق ذكر بحر لوط بذكر رحلة إبراهيم عليه وآله الصلاة والسلام من هاران (وهران) إلى الأرض المقدسة وإقامته فيها .
كما تعلق هذا البحر بمقر سكنى النبي لوط عليه الصلاة والسلام والذي جاء عنه.
لـــــــوط.
وهو ابن حاران أخ إبراهيم Abraham وقد رافق عمه في ارتحاله من أرض بين النهرين إلى كنعان (تك 11: 31 و12: 5) ثم إلى مصر ومنها (تك 13:1) وقد جمع كعمه إبراهيم مواشي كثيرة حتى أن رعاة لوط كانوا يقتتلون مع رعاة
إبراهيم بسبب المرعى ولذلك اقترح إبراهيم على ابن أخيه لوط أن يفترقا وكرمًا منه طلب إليه أن يختار الأرض التي يريدها. وإذ رأى لوط الجبال والتلال قليلة بالنسبة إلى وادي الأردن اختار الثانية وسكن في مدينة سدوم وقد فاته أن يأخذ بعين الاعتبار أخلاق الشعب الذي سيقيم بينهم والتأثير على أمانته واستقامته. وكثيرًا ما كان يتألم من مشاهد الفوضى والخروج على القانون والأعمال الأثيمة (2 بط 2: 8).
ولما غزا كدرلعومر وحلفاؤه سدوم وعمورة سقط لوط أسيرًا ولم ينقذه من الأسر سوى شجاعة عمه إبراهيم وذكائه (تك 13: 2 إلى 14: 16). ولما جاء الملاكان إلى سدوم لإنذار لوط بخراب المدينة أساء أهلها معاملتها، مما دل على أن المدينة كانت مستحقة الخراب القريب. إنما نجا لوط من الخراب ولكن امرأته تحولت إلى عمود ملح لأنها نظرت إلى الوراء متأسفة على الممتلكات التي خلفتها وراءها مما دل على أنها لم تكن مستحقة النجاة (لو 17: 32).
هنا يذكرون نهر الأردن خطأ في تصورهم وكذبهم الذي مس كل دين من الديانات السماوية فهم الذين قال الله فيهم .
فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح ان الله يحب المحسنين.13.المائدة.
فهم حرفوا كل الأماكن المقدسة حتى لم يتركوا مكانا واحد صحيحا بالنسبة لدينهم أو لدين النصارى.وهذه خائنة مما وعد الله باستمرار كشف كذبهم .
والأردن هو نهر يأتي من دان في شمال الجزائر أرض كتيم مرورا بترشيش ويصب في شط الجريد .
ونجد اسم نهر مجردة التونسي يحمل نفس الإسم لكونه يتكون من كلمتين (مجرى دان .) كما نعلم أن منطقة دان واشير في الجزائر .
وقد تعلق بحر لوط بذكر المملكة المؤابية
يذكر زيدان كفافي بأن معنى مأب هي ارض الغروب أي المغرب وإنها تشير إلى قبيلة بدوية عاشت في الصحراء. ويشير إلى أنها المملكة مؤابية.
هي بلاد موآب وهي عبارة عن سهل مرتفع تصلح لرعي الماشية (ب) عربات موآب . ونجد أن عربات هي المرتفع الأكبر في ولاية قفصة وهو جبل عرباط كما ينطق الآنوفي الكتاب المقدس يسمى Arbatta .وهوجبل سعير . والذي تكثر فيه العيون ويقال أنه مقابل أريحة وهي مدينة الراحة وهي توزر في تونس.ويبدأ تاريخ موآب بعد انقلاب مدن الدائرة.
كما جاء عم ذكر إحدى مدن الدائرة وهي الأكثر شهرة .عمورة.
← اللغة الإنجليزية: Gomorrah - اللغة العبرية: עֲמוֹרָה - اللغة اليونانية: Γόμορρα.
اسم كنعاني معناه "غرق" بلدة في غور الأردن (تك 10: 19 و13: 10) تحالف ملكها مع ملوك سدوم وبالع وأدمة وصبوييم Sodom
ضد كدر لعومر ملك عيلام، إلا أن ملك عيلام تغلب عليهم وقد دمرت عمورة (تك 14: 9ـ 11) ثم تدمرت نهائيًا بنزول نار من السماء عليها لفساد سكانها وجعل الأنبياء من تلك الحادثة برهانًا على غضب الله وأداة لتحذير بني إسرائيل من الفساد. (تك 18: 20 و19: 24ـ 28 وتث 21: 23 وعا 4: 11 وار 23: 14 و49: 18 وصف 2: 9 ومت 10: 15 ومر 6: 11 ورو 9: 29 و2 بط 2: 6 ويه 7). ويظن بأنها غمرت بمياه البحر الميت، جنوبي اللسان عند مصب وادي العسال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعمورة هذه هي .عمرة .وهي منطقة قرب قفصة قاحلة لحد اليوم وهي موطن صالح بن يوسف الثائر التونسي .
ويقولون انها دمرت نهائيا بنار من السماء والنار تقتل وتحرق ولا نذهب بالآثار .ولما لم يجدوها قالوا أننا نظن أنها غمرت في البحر الميت .وعيلام هي أيضا منطقة تابعة لقفصة واسمها اليوم .بوعلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولو تتبعنا حركة إبراهيم عليه وآله الصلاة والسلام نجدها بدأت من المغرب الأقصى الراشدية اليوم إلى وهران ثنم إلى مدينة سيلوام أرض كنعان .ثم منها انتقل إلى مصر متجها إلى الكعبة المقدسة ليبنيها .نحن نعلم أن النبي يونس أيضا هرب إلى ترشيش التي فيها مدينة سيلوام وفي طريقه إليها إلتقمه الحوت.فيتبين لنا أن اتجاه الأنبياء دائما يكون إلى الأرض المقدسة دون غيرها لشوقهم إليها.
ولو كان ذهب إلى بيت المقدس فكيف يتخذ طريقه عبر مصر من العراق أو ذهابا إلى مكة المقدسة.؟
ولنتحقق من هذا الأمر وجب علينا البحث عن ترشيش وعن مدينة سيلوام والتي يجب أن تكون غربي مصر لكون مصر كانت الطريق منها إلى مكة.
ولا نجد مدينة بهذا الاسم ضاربة في القدم في العالم إلا مدينة السيليوم التونسية وهي القصرين اليوم.جاء في سفر التكوين.14.
17 فَخَرَجَ مَلِكُ سَدُومَ لاسْتِقْبَالِهِ، بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ كَسْرَةِ كَدَرْلَعَوْمَرَ وَالْمُلُوكِ الَّذِينَ مَعَهُ إِلَى عُمْقِ شَوَى، الَّذِي هُوَ عُمْقُ الْمَلِكِ.
18 وَمَلْكِي صَادِقُ، مَلِكُ شَالِيمَ، أَخْرَجَ خُبْزًا وَخَمْرًا. وَكَانَ كَاهِنًا للهِ الْعَلِيِّ.
19 وَبَارَكَهُ وَقَالَ: «مُبَارَكٌ أَبْرَامُ مِنَ اللهِ الْعَلِيِّ مَالِكِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ،
ويتحدث أحمد صفر عن مدينة كان بها في ذلك العصر ميناء كبير، وتقع على شط الفجاج حينما كان البحر يمتدّ من خليج سرتا الصغير - خليج قابس- إلى شطّ الجريد حيث توجد جزيرة اشتهرت أيام اليونانيين وعرفت بجزيرة (الأطلنتس) العجيبة، و إليكم بعض ما جاء في قوله هذا: " ومن المفيد في هذه المناسبة الحديث عن الجزيرة العجيبة والتي دخلت عالم الخرافات والأساطير وهي -جزيرة الأطلنتس- التي ورد ذكرها في العديد من المراجع اليونانية. فقد تحدث عنها المؤرخ الكبير هيريدوتس وأفلاطون الحكيم 435 ق م وديودورس الصقلي"3. وأعتقد أن هذه الأساطير منطلقة عن واقع وعن حقيقة، ولا يمكن أن تنطلق من فراغ. هذا وكان العرب يسموّن المدينة القريبة منها مدينة النحاس. فأين تقع هذه المدينة يا ترى ؟
ومن العلماء الألمان الذين ذهبوا إلى أن مدينة ترشيش هي مدينة النحاس وأن موقعها على شط الفجاج الأستاذ الباحث -بوشارد- من مدينة ميونيخ. وقد أنجز في الموضوع بحثا معمقا دعمه بزيارة ميدانية للبلاد التونسية في فيفري 1928 حيث توجه إلى عين المكان مما جعله يزداد قناعة ويقينا أن المعلومات التي توصّل لها كانت صحيحة. ثم رسم خريطة تحدد موقع المدينة الكائنة جنوب وادي المالح الذي يصبّ في خليج قابس بعد إجتياز سبخة الحامة ويدور خلف وذرف. كما قام الدكتور–هرمان- الأستاذ بكلية برلين بدراسة مشابهة في الموضوع نفسه. و قدم هو أيضا إلى تونس سنة 1930 وزار المنطقة للمقارنة بين ما توصل إليه نظريا وبين ما سيقف عليه ميدانيا، فانتهى إلى النتيجة التالية: أن مدينة النحاس كانت موجودة على ضفة شط الفجاج أيام كان البحر يمتد إلى إذّاك شط الجريد، وكانت البلاد إذّاك عامرة باليونانيين".5
ورسم هذا الباحث خريطة للجنوب التونسي تظهر شط الجريد وهو متصل بالبحر. وقد أكد أن خصائص الخليج البحرية متوفرة في المنطقة، وحدد تاريخ ذلك ما بين القرنين الثالث عشر والثاني عشر قبل الميلاد. ويدعم أحمد صفر الذي أورد الخبرين السابقين ما ذهب إليه العالمان الألمانيان بأن العرب -الجغرافيين والمؤرخين- ذكروا أن بادية مدينة النحاس تقع قرب رمال يقال لها العرق جنوب سبخة الفجّاج شمال شرقي الحامة
وفي الحقيقة أن الحامة كانت طريق القوافل الليمس، وهو طريق محصنة كانت تربط بين لبدة و قابس و حيدرة لحماية المستوطنات التي تقع بالجنوب التونسي من هجومات الأمازيغ الرافضين للوجود الروماني .
ولقد أشارت المراجع إلى وجود معسكرات خاصة بالشتاء تقع بمناطق الجنوب للدولة الرومانية وهي معسكرات كبيرة تسمى.
Castra Priberna .
أقيمت في مدن يتوفر فيها الماء الساخن و تكون قريبة من الحدود. كما ربطت هذه المعسكرات بطريق في غاية الحصانة سمى بالليمس
وهو الذي يصل إلى جزيرة القصرين التي كانت تسمى جزيرة أتلانتس.
ونجد كل التفاصيل لما ذكر عن هذه المدينة بآثارها موجودة لحد الساعة.فلقد ورد اسم عمق شوى.وهو وادي السوي أي الرمل يخترق مدينة القصرين وهو بالفعل على بعد ربع ميل من مدينة السيليوم وبقربه نصب موجود لحد اليوم أمام المعهد الفني وهو الذي اجتمع فيه إبراهيم عليه وآله الصلاة والسلام بكدر لعمور وهو تقريبا .قادر العمري.والله أعلم .لوجود هذا اللقب في ذكر نلوك سفيطلة ووجوده إلى اليوم في المنطقة.جاء عن هذا ما يلي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
شَوَى.
اسم عبري معناه "سهل" وهو واد سمي فيما بعد وادي الملك، رب شاليم، حيث قابل ملك سدوم إبراهيم بعد هزيمة كدرلعومر (تك 14: 17 و18). وفيها بنى ابشالوم نصبًا تذكاريًا له (2 صم 18: 18) وهو-كما يذكر يوسيفوس-يبعد نحو ربع ميل عن مدينة أورشليم. ربما كان هو وادي الجوز الذي يقع شمالي أورشليم ويتصل بوادي قدرون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
علما أن هذا الطريق كان بسمى الطريق المقدس وهو يربط هذا النصب بمكان الصلب الذي جهز لصلب المسيح عليه وأمه الصلاة والسلام.
في تلة مدرجة طبيعيا حجرها صوان فيه مقبرة أثرية تغطى كل قبر فيها بحجر أسود صوان لا يمكن دحرجته لأنه أثقل من الحديد نفسه.
بحر سوف.في الجزائر
يسّمونه البحر (خر 14: 2 و9 و16 و21 و28 و15: 1 و4 و8 و10 و19 يش 24: 6 و7) وسمّي أيضًا بحر مصر (1ش 11: 15) و"بحر سوف" ربما اتخذ هذا الاسم من النبات الذي يكثر على شواطئه (خر 10: 19 و13: 18 و15: 4 و22 و23: 31).
والحادثة المهمة المقرونة بالبحر الأحمر هي مرور بني إسرائيل فيه وغرق المصريين (خر 14 و15) وكثيرًا ما تشير الكتب المقدّسة إلى هذه الحادثة (عد 33: 8 وتث 11: 4 ويش 2: 10 و2 صم 22: 16 ونح 9: 9-11 ومز 66: 6 واش 10: 26 واع 7: 39 و1 كو 10: 1 و2 عب 11: 29 الخ).وبعد ارتحالهم من هناك
(عد 33: 10) ومن البحر آتى الجراد (خر 10: 12-19) والسلوى (عد11: 13). وقد داروا حول خليج العقبة ليطوفوا بأرض ادوم. وفي ملك سليمان بني مراكب في عيصون جابر وأيلة عند رأس الخليج (1 مل 9: 26 و10: 22 و2 اي 8: 17 و18).
وقد بدل اليهود شط الجريد بالبحر الأمر الذي لا يمكن اجتيازه لعمقه وقد قالوا عنه.
وقد اختلفت الآراء في مكان عبوربني إسرائيل والترجيح أنهم عبروا خليج السويس ترجيح أنهم عبروا خليج السويس بالقرب من طرفه الشمالي. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلافي صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى). وقد اثبت العلامة روبنسون أن ريحًا شرقية شمالية تهب على هذا الجزء تكفي لطرد الماء من بعض الأماكن. وعلى كل حال تغيّرت المعالم في العصور الغابرة بحيث يتعسّر معرفة الموضع بالضبط
المراجع.
لمحة عن الـحامة في العهود القديمة
لمحة عن الـحامة في العهود القديمة
من كتاب الحامة تاريخ و حضارة للأستاذ الهادي بن وناس زريبي
1- الحامة في العهد اليوناني
2- الحامة في العهد الفنيقي والقرطاجي
3- الحامة في العهد الروماني
الحـامة في العـهدين اليـونـاني والفنيقي
فكرت في عدم الحديث عن الحامة قبل العهد الروماني وذلك لقلة المعلومات عن هذه الفترة التي تشمل العهدين الفنيقي والقرطاجي الّلذين إعتبرهما بعض المؤرخين عصرا واحدا. لأنّ العهد القرطاجي هو إمتداد للعهد الفنيقي ومتولد عنه.
لكنّ عهدا سبق مجيء الفينقيين ألا وهو العهد اليوناني الذي لم يتحدث عنه المؤرخون إلا نادرا. لكنّ الذي شجّعني على الإشارة إلى هذه الفترة من الزمن المبكر ما وجدته عند الباحث أحمد صفر في كتابه القيّم -مدنيّة المغرب العربي- الذي تحدث فيه عن وجود حضارة قديمة على شط الفجاج حينما كان البحر ممتدا إلى شط الجريد. وكذلك الأخبار المتواترة التي تشير إلى أنّ اليونان كانوا يترددون على ميناء مدينة تجارية كبيرة تسمى مدينة النحاس. كما عثرت على مقال قيّم عن الحامة في العهد اليوناني صدر بجريدة لابراس الإربعاء 06-09-2000.
الحـامة في العهد اليوناني
تؤكد كتب التاريخ أن اليونانيين ترددوا على منطقة السرت الكبير المقابلة لبلادهم. بل وصلوا إلى أن ساحوا في حوض البحر الأبيض المتوسط إثر تغلبهم على الفرس الذين حاولوا الاتجار في هذا البحر. ومن هنا فالإغريق قد ترددوا وتاجروا مع مدن هذا البحر وقراه، وتعرفوا على أهله واختلطوا بهم قبل مجيء الفنيقيين وذلك حوالي 1300 قبل الميلاد. ويشير السيد أحمد صفر إلى هذه الحقيقة فيقول: " من الأمور الثابتة تاريخيا اتصال الليبيين ( أي سكان شمال إفريقيا القدامى) بعالم جزر (الكريت) التي كانت بها مدنية زاهرة وحضارة فاخرة. ومن الأخبار المتداولة أن كروبيتوس الإغريقي دفعته الزوابع إلى السواحل الليبية، ثم رجع إليها بعد ذلك ربانا يقود سفينة تجارية. ثمّ تكرّرت رحلاته حتى تكونت بينه وبين اللوبيون1 صداقة كبيرة 2.
و يواصل صفر حديثه فيقول: " إن جزيرة قرقيرة (جزيرة قرقنة التونسية) هي من الجزر التي أقام بها اليونانيون. ويؤكد هيرودوتس أنهم هم الذين أنشأوا كذلك مدينة الصخيرة ووصلوا إلى طبرقة حيث عثر على قرون جواميس وآثار تؤكد ذلك".
اليونانييون ومدينة النحاس
ويتحدث أحمد صفر عن مدينة كان بها في ذلك العصر ميناء كبير، وتقع على شط الفجاج حينما كان البحر يمتدّ من خليج سرتا الصغير - خليج قابس- إلى شطّ الجريد حيث توجد جزيرة اشتهرت أيام اليونانيين وعرفت بجزيرة (الأطلنتس) العجيبة، و إليكم بعض ما جاء في قوله هذا: " ومن المفيد في هذه المناسبة الحديث عن الجزيرة العجيبة والتي دخلت عالم الخرافات والأساطير وهي -جزيرة الأطلنتس- التي ورد ذكرها في العديد من المراجع اليونانية. فقد تحدث عنها المؤرخ الكبير هيريدوتس وأفلاطون الحكيم 435 ق م وديودورس الصقلي"3. وأعتقد أن هذه الأساطير منطلقة عن واقع وعن حقيقة، ولا يمكن أن تنطلق من فراغ. هذا وكان العرب يسموّن المدينة القريبة منها مدينة النحاس. فأين تقع هذه المدينة يا ترى ؟"
مدينة النحاس و ميناؤها الكبير
أين تقع هذه المدينة؟ وما هي أهمية الميناء الذي يقع بقربها؟
لقد اختلف المؤرخون في تحديد موقع مدينة النحاس التي يعتقد البعض أنها مدينة ترشيش، ومن هنا أصبح في المسألة قولان كما يقول الفقهاء. وسنحاول إبراز كل منهما والمقارنة بينهما لإستخلاص النتيجة وإجلاء الحقيقة.
ذهب بعض المؤرخين الغربيين القدامى على أنّ مدينة ترشيش تقع بالقرب من مدينة قادس التي أنشأها الفينيقيون بجانب النهر الكبير. وقادس و النهر الكبير يقعان في إسبانيا.
كما ذهبت مجموعة أخرى من الباحثين الغربيين أيضا ولكنّهم من العلماء المعاصرين من ألمانيا وفرنسا إلى غير ذلك الرأي. فهم يرون أنّ موقع المدينة المذكورة يقع بمدخل شط الجريد على الضفة الجنوبية لشط الفجاج. وكان العرب يسمونها مدينة النحاس لأنها كانت تصنع وتصدّر معدنا يشبه النحاس يسمى LE LAITON ويقولون أن هذه المدينة كانت مقصد التجار اليونانيين والاقريطيين والفنيقيين واليهود. وكان بها أكبر ميناء، لإتصال شط الجريد بالبحر في ذلك الوقت"4
ومن العلماء الألمان الذين ذهبوا إلى أن مدينة ترشيش هي مدينة النحاس وأن موقعها على شط الفجاج الأستاذ الباحث -بوشارد- من مدينة ميونيخ. وقد أنجز في الموضوع بحثا معمقا دعمه بزيارة ميدانية للبلاد التونسية في فيفري 1928 حيث توجه إلى عين المكان مما جعله يزداد قناعة ويقينا أن المعلومات التي توصّل لها كانت صحيحة. ثم رسم خريطة تحدد موقع المدينة الكائنة جنوب وادي المالح الذي يصبّ في خليج قابس بعد إجتياز سبخة الحامة ويدور خلف وذرف. كما قام الدكتور–هرمان- الأستاذ بكلية برلين بدراسة مشابهة في الموضوع نفسه. و قدم هو أيضا إلى تونس سنة 1930 وزار المنطقة للمقارنة بين ما توصل إليه نظريا وبين ما سيقف عليه ميدانيا، فانتهى إلى النتيجة التالية: أن مدينة النحاس كانت موجودة على ضفة شط الفجاج أيام كان البحر يمتد إلى إذّاك شط الجريد، وكانت البلاد إذّاك عامرة باليونانيين".5
ورسم هذا الباحث خريطة للجنوب التونسي تظهر شط الجريد وهو متصل بالبحر. وقد أكد أن خصائص الخليج البحرية متوفرة في المنطقة، وحدد تاريخ ذلك ما بين القرنين الثالث عشر والثاني عشر قبل الميلاد. ويدعم أحمد صفر الذي أورد الخبرين السابقين ما ذهب إليه العالمان الألمانيان بأن العرب -الجغرافيين والمؤرخين- ذكروا أن بادية مدينة النحاس تقع قرب رمال يقال لها العرق جنوب سبخة الفجّاج شمال شرقي الحامة.
والذي يمكن أن نظيفه في هذا الصدد بحكم أنني أبن الجهة وقد قمت بعدّة زيارات للمنطقة التي ورد ذكرها كشط الفجاج والعرق والميدة ووادي المالح ووذرف ومنطقة والي التي بها بعض الأثار القديمة كالآبار والحجارة المنحوتة الضخمة نظيف إلى ما تقدم الأمور التالية :
1- السبخة والعرق مازالا حاليا من ضواحي الحامة الشمالية وجزءا من باديتها.
2- يوجد غرب مدينة وذرف مقاطع شاسعة من الرمل الذي يستعمل في البناء حاليا ، وهو يشبه رمل البحر إلا أنّ لونه أصبح يميل إلى الصفرة لكنّ حلزون البحر يشير إلى أصله .
3- ورثنا على الأباء والأجداد أنّ مدينة الحامة كانت تسمّى قديما مدينة النحاس وكان بها مائة حداد يهودي.
4- إن ضواحي الحامة مازالت تشهد على ماضيها المنجمي القديم كوجود مواد أوليّة مختلفة بباطن الأرض، فهنالك بقايا مناجم للحديد والنحاس إستغلّ الفرنسيون بعضها، ولمّا كانت مخزوناتها قليلة تركوها. كما أنّ هناك أنفاقا ومغارات عميقة بجبل عزيزة وجبل حديثة وكامل جبل الطباقة قد تكون هي أيضا بقايا مناجم أستغلّت في الماضي.
5- بالحامة أنواع مختلفة من الطين الجيّد ذي الألوان المختلفة من أصفر وأحمر وأخضر. ومن المحتمل أنّ هذا الطين إستغلّ قديما في صناعة الفخّار وقد توارت أبناء الحامة صناعة طينية مختلفة.
6- أكتشف مؤخرًا بشط الفجاج مادة – البانتونيت – قرب المكان الذي يعتقد أنّ الميناء الكبير كان غير بعيد عنه.
7- يوجد بجبل السقي من أراضي الحامة منجم قديم لملح الطعام ، استغلّه الأهالي والفرنسيون مدّة طويلة .
8- هناك أثار مدفونة بجهات مختلفة من الحامة وخاصة بجهة والي شمال شطّ الفجاج يقال أنّها أثار رومانيّة. ولكنها قد تعود إلى ما قبل ذلك. إنّنا في تونس ننسب كل الآثار القديمة إلى الرومان وهو خطأ فادح يجب الانتباه إليه.
9- هناك تشابه بين مدينة قادس وقابس كما أن إتصال قابس بشطّ الجريد يجعله نهرا كبيرا ولعلّ الفريق الأوّل من المؤرخين تشابه عليهم إسم قابس بقادس.
10- إستعان السيد – هارمان- بمهندس من أبناء الحامة أثناء زيارته لمنطقة العرق و سهل له الأطلاع على عدد مواقع الأثرية الأخرى.
هذه بعض الملاحظات سقناها كما عرفناها أو سمعناها علها تدعم ما توصل إليه العلماء المختصون. كما يعلق أحمد صفر على أبحاث العالمين الألمانيين بقوله:" ليست هذه النظريات مستبعدة خصوصا إذا علمنا أنّ شطّ الجريد يسمّى بصحراء مدينة النحاس في بداية العصر الإسلامي"6
هذا وخصص محمد المرزوقي حيزا من كتابه قابس جنّة الدنيا للحديث عن نظريّة باحثين فرنسيين هما– روديرو – وليسبس– وعزمهما على فتح قناة شط الجريد من جديد.
كما جاء في مجلة العلوم اللبنانية عدد 10 سنة 1957 حديثا عن هذه القناة بعنوان " إنشاء قناة داخلية بالجنوب التونسي" ملخصه أن الأوساط المالية الفرنسية تهتمّ بحفر قناة من ساحل قابس إلى شط الجريد الذي يمتدّ إلى الجنوب الجزائري هدفه تسهيل نقل البضائع التي تستخرج من مناجم الجنوب كما تنقل البترول. وتلطف جوّالصحراء. وقدرت تكاليف المشروع بنحو مئة مليار فرنك ".7
من أصداء الحامة في العهد اليوناني :
" على بعد كيلومترات من قابس، وعلى مستوى نصف المسافة تقريبا الفاصلة بين البحر وشط الفجاج، تنتصب واحة الحامة متحديّة البحاثة والفضوليين وقد يكون من المستحيل في تونس وجود مكان تتشابك فيه الأسطورة بالتاريخ مثل هذا المكان. وما من شك أن المكانة التي تختص بها هذه الواحة مستمدّة من الموارد المائية الحارة التي تتمتع بها والتي جعلت منها مركز نشاط مكثف، ومتنوع منذ أقدم العصور.
لكن هذه الشهرة ليست غريبة عن الباحثين " فأكوا تكابيتانا " Acoue Tacapiana كما يوحي بذلك أسمها كانت قريبة من " تاكاب". وهو الاسم القديم لمدينة قابس. سكان هذه المنطقة الأغنياء مثل التجار والحرفيين والملاحين كانوا سعداء بوجودهم هناك. خاصة وأنّ هذه المنطقة تقع على طريق تربط شمال البلاد بأقصى حدود التراب البونيقي .
وبالإضافة إلى ما سبق فإن الأسطورة الإغريقية وعلاقة تونس بالإغريق معروفة لم تتجرأ بعد على رفع الحجاب أو القناع الذي نسجته حول هذه المنطقة منذ آلاف السنين .فقد تكون واحة الحامة وجدت على ضفاف بحيرة " تريتيون " الشهيرة، هذا ما صرّحت به شهرية معروفة " المجلة التونسية " لسان معهد قرطاج قبل أن نظيف منذ العصر الحديث، هذه البحيرة التي تستمد مياهها من النهر، والتي تصبّ في بحر عرف بأخطار الملاحة فيه، ولم تكن محل إجماع المؤرخين حولها. ومع هذا فإن الرحالة " شاو " يؤكد أن وادي الحامة هو نفسه وادي تريتون " سابقا. كما يصرح الكشاف " ريبيل " وغيره وخاصة الرحالة العرب منهم أن – سيرتا الصغرى- كانت جغرافيا متوغلة أكثر في الساحل، وكانت بهذا متصلة بالبحيرة .
هذا إحتمال يؤكد النظرية التي تزعم أنّ " سيرتا الصغرى هي ذاتها بحيرة تريتون " التي سميت في ما بعد" بتاكابس " هكذا إذن تكون بين واحة الحامة والبحر، أي في قلب المنطقة التي شدت إليها نظر القداماء - مينارف - كانت تظهر على ضفاف هذه البحيرة الساحرة. والإلاه تريتون أنقذ فيها –جازون- في جزيرة فيلا مثلا . وإنّ المؤرخ المعاصر الكبير المختص في شمال إفريقيا- ستيفان قيزال- أغّري بدور هذه النظريات حول المنطقة. لقد كان سكان هذه الربوع معاصرين لإمبراطورية الإغريق المتواجدين في "سيران " من جهة، ومن جهة أخرى بأوائل الفنيقيين الذين استقروا بقرطاج متأثرين بحضارتين مختلفتين. ونتيجة لهذه التأثيرات يصف - هيرودوت- أنموذجا منها كما يلي: أثناء عيد سنوي يقام لآلهة أثينا حفل كانت الصّبايا يقسّمن إلى قسمين، ثم يدخلن في معركة تستعمل فيها الحجارة والعصيّ زاعمات أن هذه العادة ورثت عن أبائهن تكريما للألهة السابقة الذكر، والتي نشأت على أرضهم. وبعد الإنتهاء من المعركة كان كلّ فريق يزين أجمل واحدة منهن، ويوضع على رأسها تاجا وترتدي حلة قتال إغريقية كاملة – درعا- ثم يحملن العرائس على عربة حربية تجرّها الخيول ويطاف بهنّ حول البحيرة "8 .
لمحة عن الجهة في العهد الفنيقي
لقد اتفق المؤرخون على تحديد إنشاء قرطاج سنة 819 ق م، كما أنهم أكدوا على وصول الفنيقيين إلى الشواطئ الجنوبية للبحرالمتوسط قبل هذا التاريخ وبنوا لهم محطات تجارية على طول هذه السواحل من خليج سرت الكبير إلى إسبانيا. وكان من بين هذه المحطات مدينة – تاكاب– في خليج سرت الصغير. ويظهر أنهم كانوا يترددون على السواحل المغاربية قبل بناء هذه المحطات، لأن الإستقرار والبناء وتعاطي التجارة في أماكن بعيدة عن وطنهم لا يكون أمرا سهلا من غير دراسة المواقع ومعرفة المتساكنين معرفة تامة بهم. إذ لابدّ أن يكونوا قد ترددوا على هذه الأماكن وقاموا بزيارات استطلاعية وإتصالات متكرّرة بالأهالي. فمتى كان ذلك يا ترى ؟
تقدم لنا أن الأمم المتحضرة في المشرق وآسيا كانت تحاول ترويج تجارتها بين أمم العالم وقد جاء اليونانيون إلى بلادنا في حدود 1300 ق م. كما يذكر بعض المؤرخين أن مجيء الفنيقيين كان في حدود 1200 ق م. وهذا الدكتور فيليب حتي يحاول تحديد هذه المدّة فيقول "وبلغ نشاط الفنيقيين التأسيسي غربي البحر المتوسط ذروته ما بين منتصف القرنين العاشر والثامن. ولكنّ نجاحه يشير إلى وجود طبقة أقدم من المستوطنين الساميين في شمال إفريقيا. ويروي هيرودوت كيفية التعامل بين الشعبين فيقول "أن الفنيقيين على ساحل إفريقيا الغربي كانوا ينزّلون بضاعتهم إلى الشواطئ، ويوقدون النار إشارة للسكان المحليين، ثم ينسحبون إلى سفنهم فيأتي هؤلاء السكان ويضعون ذهبا مقابل تلك البضاعة وينسحبون، ويعود الفنيقيون فإذا ما وجدوا أنّ الذهب يتناسب مع بضاعتهم أخذوه و تركوا البضاعة. ولم يعمد أي من الطرفين إلى غشّ الآخر"9 .
كما ورد بالمنجد اللبناني في مادة – قبس– " قابس مدينة تونسية تجاورها الواحات الخصبة المثمرة والعامرة بالسكان. وفي الموضع أسس الفنيقيون مدينة ما بين القرن 14 و13 ق م". وأشار أندري جوليان كذلك إلى بعض هذه المحطات التجارية فقال:
"وهكذا كان لقرطاج أسواق ومراكز تموين أسسها أسلافهم. فنجد في إفريقية أسواق سيرتا الكبرى– لبدة – وسيرتا الصغرى – قابس ومواني أخرى كثيرة "10 .
وجاء في دائرة المعارف الإسلامية : " أنه كان في مدينة قابس الحديثة مدينة عتيقة تسمى- تاكاب- أسسها الفنيقيون وكانت أكثر المدن إزدهارا بخليج سيرتا الصغرى، فتداولها القرطاجيون ثم الرومان من بعدهم. وصارت في زمن الإمبراطورية الرومانية ذات أهمية كبرى "11.
هذا ولا يعقل أن تكون قابس وقتئذ على هذا المستوى من الأهمية، وتكون مدينة الحامة مجهولة لدى الفنيقيين والقرطاجيين الذين أهتموا بالتجارة وترويجها في الدواخل الإفريقية. والمعتاد أنّ تكون الرافي الكبرى مخصصة لشحن البضاعة المحلية وإستقبال البضاعة الواردة. أما التوزيع والشراء والبيع فيكون عادة بالدواخل. لذلك كانت الحامة أهم المدن الداخلية بمنطقة قابس تأتي في الدرجة الثانية بعد عاصمة الإقليم. كما كانت قوافلها تتردّد على مدن غدامس و السودان وتانبوكتو. انظر خارطة التجارة بقسم الوثائق.
وقد أكّد المؤرخون أن مدينة الحامة قديمة شأنها شأن مدينة قابس، وقد أسسها اللوبيون سكّان شمال إفريقيا القدامى، أشار إلى ذلك إبن خلدون بقوله :" وحامة مطماطة نسبة إلى أهلها الموطّنين كانوا بها من البربر.وهم فيما يقال الذين إختطوه"12.
وما إهتمام الرومان بها إلا دليل على نشاطها في عهد الفنيقيين والقرطاجيين .
منطقة خليـج قـابس في العـهد القـرطاجـي
القرطاجيون هم أبناء الفنيقيين وأحفاد الكنعانيين الذين هاجروا من بلاد اليمن إلى فلسطين حوالي ثلاثة ألاف سنة قبل الميلاد، وتعتبر هذه الهجرة من أوائل الهجرات العربية . ثمّ إنتقل بعض من هؤلاء الأبناء إلى لبنان حوالي 2800 ق م وإستقرّوا بصيدا وصور. ثمّ سيطروا على حوض البحر الأبيض المتوسط. وأقاموا لهم مراكز تجارية متعدّدة على طول سواحل الشمال الإفريقي حتى شبهها بعضهم لكثرتها وتقارب بعضها من بعض بحبات السبحة. فهي تنطلق من خليج سرت الكبير إلى البلاد الإسبانية. ثمّ ورث القرطاجيون عن أبائهم الفنيقيين هذه المحطات التجارية، من بينها تكابس درة خليج السرت الصغير. ويشير أحمد صفر إلى هذه المراكز التجارية فيقول " وكان لقرطاج أسكلة وزعت توزيعا ماهرا لتكون أسواقا ومراكز تموين. فنجد في إفريقية أسواق سيرتا الكبرى والصغرى مثل لبدة وقابس ورأس الديماس وسوسة وأوتيكة وبنزرت " 13.
والمقصود بسيرتا الصغرى خليج قابس أي المنطقة التي عرفت في عهد الاستعمار الفرنسي بمنطقة الأعراض التي تعتبر الحامة من أنشط أسواقها بحيث كانت تموّل مركز الإقليم بمنتوجات فلاحية عديدة كالمنسوجات الصوفية والحبوب والأغنام.
كما أن اهتمام الرومان فيما بعد بهذه المنطقة يشير إلى تواجد القرطاجيين بها. يقول السيد الهاشمي عبد المؤمن " إن البقايا الأثرية المتناثرة بجهة الحامة هي أثار قرطاجية ثم جدّد الرومان بعضها وأهمل البعض الآخر. كالآثار الموجودة بشط الفجيج ووالي والميدة والسقي"14 .
تجارة القوافل ومنطقة قابس القرطاجية
ليس صحيحا أن نشاط القرطاجيين اقتصر على التجارة البحرية التي ورثوها عن آبائهم الذين تكثّفت تجارتهم بحوض البحر الأبيض المتوسط. لقد استقرّ الأبناء بهذه الربوع المغربية، ونوّعوا نشاطهم التجاري، كما أقاموا أسواقا بالدواخل لترويج بضاعتهم التي يجلبونها من الأسواق المشرقية واﻵسياوية كماكانوا يصّدرون البضائع الإفريقية، واعتمدوا في ذلك على القوافل التي تتولى القيام بهذه العملية، والتي يديرها أبناء البلاد الأصليون – البربر– يقول محمد المرزوقي في هذا الشأن " لقد كانت قابس جسرا تربط القارة بسواحل البحر المتوسط. وساعدها على القيام بهذا الدور حيوية أسواقها، وتوفر بضاعتها وتطور فلاحتها وتنوع منتوجاتها، وجودة صناعتها. وكانت القوافل تنطلق من قابس محملة بمختلف البضائع الثمينة مارة بغدامس والسودان إلى أواسط إفريقيا "15 .
لقد كانت تجارة القوافل مزدهرة بمنطقة قابس يديرها البربر من عهود قديمة فلما جاء القرطاجيون طوروها ودعموها وزادوها حيوية ونشاطا. ويحدّثنا الكاتب المغربي عبد الوهاب ذنّون عن هذه التجارة فيقول " لقد كان البربر على بينة من أهمية موقعهم بالنسبة لطرق التجارة بين الصحراء وبقية سواحل الشمال الإفريقي، فنقلوا التجارة الصحراوية بين المناطق الداخلية والساحلية. ففي الجنوب كانت زويلة محطة شهيرة لتقاطع طرق القوافل بها. ثم تنقل إلى بلدة قابس وغيرها من المواني المتواجدة على السواحل التي كانت منذ قرون منافذ للتجارة الصحراوية" 16 .
هذا وكانت غدامس والسودان محطتين رئيستين وأسواقاً كبرى لتجارة القوافل بالمنطقة من قابس بصفة خاصة حيث كانت بينهما علاقات تجارية واسعة النطاق، تربط بينهما طريق قديمة تمتدّ مستقيمة محاذية للحدود التونسية الليبية. وقد أشاد الرحالون والجغرافيون العرب وغيرهم بالدور النشيط الذي لعبته منطقة الأعراض في مجال التجارة الصحراوية بحيث كانت محط رحال القوافل التي تؤّمها من كل الجهات حاملة البضاعة الإفريقية من ذهب وفضّة وعاج وريش نعام. ثم تعود هذه القوافل محملة بالحبوب والتمور والفواكه والمنتوجات وغيرها من الأقمشة والأواني المختلفة التي تنتجهامنطقة قابس أو تجلب إليها .
و قد أشار المؤرخ اليوناني استرابونً إلى دور قابس التجاري الذي قامت به من قديم الزمان فيقول " لقد كانت قابس محطة وسوقا ساحلية كبيرة " ويعلق الدكتور محمد فنطر الذي أورد هذا النصّ بقوله : " لقد أشار استرابون إلى وظيفة قابس التجارية باعتبارها إحدى الأسواق الساحلية، ولقّبها بالإمبريوم. وهي كلمة تعني في اللغة اللاتينية المرفأ السوق حيث تتجمع فيها البضائع الواردة عليها برّا وبحرا وفيها يقع التبادل والتوزيع إنطلاقا منها. فهذه تأتي بها القوافل لتأخذ أخرى و تلك تأتي بها السفن لتغادر المرفأ محملة ببديلها "17 .
القرطاجيون والفلاحة بقابس
غير صحيح أن القرطاجيين لم يهتموا بالفلاحة لاختصاصهم وانشغالهم بالملاحة التجارية البحرية، التي ورثوها عن آبائهم. والتي كانت في البداية من أولويات نشاطهم. لكنهم سرعان ما توجهوا نحو الفلاحة وذلك في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد حيث شرعت قرطاج في استصلاح الأراضي وتربية المواشي وغراسة الأشجار المثمرة وهي أمور غير غريبة عنهم لمّا كانوا بصيدا وصور. فالفنيقيون في مقدمة الأمم التي اهتمت بالزراعة وقد جلبوا العديد من وسائلها ومرافقها ومنتوجاتها التي لم تكن موجودة في البلاد المغرب .
و هذا المؤرخ اليوناني -هيرودوتس- ينوّه بوفرة الإنتاج وخصوبة الأرض في المنطقة المغاربية فيقول: " إنّ القمح في طرابلس يعطي الكيل الواحد ثلاثمائة أمثاله"18 .
هذه الشهادة تفنّد الزّعم الذي يدعي أن الرومان هم أول من تعاطى الفلاحة في بلادنا، فعبّدوا المسالك و شقّوا القنوات وغرسوا الزيتون وبذروا القمح والشعير.
لقد تأكد بما لا يدع مجالا للشك أن الفنيقيين هم الذين جلبوا العديد من الأشجار المثمرة من بلاد المشرق وأنّ القرطاجيين هم أول من توسع في غراسة الزيتون والكروم وجلبوا معهم مزروعات متنوعة من بلاد الشرق.
يقول الدكتور فليب حتّي المختص في تاريخ الفينيقيين مؤكدا اهتمام هؤلاء القوم بالفلاحة وترويج وسائلها وأدواتها ومنسوجاتها، " وكان محمول السفن الفنيقية يضمّ نباتات ومحاصيل مثل الورد والنخيل والتين والزيتون والرّمان والخوخ واللوز، وكان لهم فضل نشرها في بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط كلّها "19 .
لذلك فإن دور الرومان يتمثل في المحافظة على ما وجدوه وتوسعوا في زراعة القمح خاصة للتغلب على المجاعة التي كادت ستقضي على الدولة الرومانية.
لقد أشارت كتب التاريخ كلها إلى الدافع الذي حمل روما على استعمار قرطاج والقضاء عليها، وأكدت جميعها أن الأزمة الغذائية هي التي كانت سبب هذا الإستعمار .
و ما ازدهار الفلاحة بقرطاج في العهد البونيقي إلا دليلا على تقدمها قبل ذلك. وإن الموسوعة الفلاحية العظمى التي ألّفها العالم القرطاجي – الماغوني– إلا دليلا على أن الزراعة أصبحت في ذلك العهد علما من العلوم المتميزة. علما قائما بذاته له قوانينه وقواعده، وبقيت هذه الموسوعة مرجعا وحيدا للعالم الغربي إلى عهود قريبة،و ذلك لما تضمنته من قواعد وقوانين في ميدان الفلاحة عموما لم تسبق إليها. وتخصّ هذه القواعد طرق غراسة الأشجار المثمرة وكيفية الاعتناء بها إضافة إلى تربية المواشي والدواجن.
ونتيجة لهذه القواعد العلمية والتوجيهات العملية تضاعف الإنتاج الزراعي حتى أصبحت الزيوت والقموح القرطاجية تزود جميع ممالك العالم القديم. كان هذا قبل حلول الرومان بإفريقية .
كما اهتمت قرطاج بغراسة النخيل كمّا وكيفا. ونستنتج ذلك مما أشارت إليه كتب التاريخ ومن رسم النخلة على النقود القرطاجية، وإنّ هذه الشجرة المباركة يعود الفضل في جلبها من بلاد المشرق إلى الفينيقيين حسب ما تقدمت الإشارة لذلك، وربما جليها الامازيغ أيضا من بلاد اليمن.
ويرسم لنا بلين الأكبر لوحة فنيّة رائعة لواحة قابس في العهد القرطاجي منوها بجمالها وخصوبة أراضيها فيقول: " كانت الزراعة في تاكابس ذات طوابق ثلاث، خضروات ثم أشجار مثمرة من زياتين وكروم ورمان ، وتشرف النخلة عليهم جميعا من عليائها"20 .
ويعلق الدكتور محمد فنطر الذي أورد هذا النص فيقول " إنّ هذه اللوحة الجميلة التي رسمها بلين الأكبر في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد لواحة قابس تجعلنا نسأل عن صانعي هذا الجمال الذين ووفروا هذا الرخاء. ورأيي أنّ هذا الخصب وهذه الفلاحة ذات الطوابق العديدة من معجزات الحضارة التي أفرزت العالم الفلاحي الماغوني القرطاجي، ذلك الذي صنّف رسالته في الفلاحة تهتم خاصة بغراسة الأشجار المثمرة.وانتقلت تلك الرسالة إلى روما ومنها إلى كامل الأقطار الأوروبية"21 .
وفي اعتقادي أن هذه اللوحة لا تختصّ بواحة قابس فقط، بل تشمل واحات المنطقة كلها وكذلك واحات قفصة وتوزر، الأمر الذي يؤكد أن نفوذ الدولة القرطاجية كان يشمل هذه المناطق كلها.
كما نلاحظ أن هذه اللوحة القرطاجية مازالت ملامحها إلى اليوم بل كانت في الأمس القريب أكثر بهاء وروعة لولا نضوب الماء الذي جعل الفلاح يتكاسل ويزهد في الفلاحة فبهتت نضارة اللوحة وذوي جمالها. ولكن مازالت بعض الخطوط العريضة، والملامح الكبرى تشير إلى ذلك الماضي البعيد .
الحــامة في العهد الروماني
مما لا شك فيه أن الحضور الروماني متأكد بخليج سرتا الصغرى – تكابس– الذي كان من أهم المواني الفنيقية. وإن هذا الحضور قد توسع حتى تغلغل في المناطق الغربية إلى قفصة وتوزر .
وبالتالي فإن الحامة كانت تقع ضمن هذا الحيز الذي نمت فيه الحضارة الرومانية وإزدهرت. وتشير المراجع إلى إمتداد المستعمرات الرومانية على الضفة الجنوبية لشط الفجاج مما نتج عنه نموًا حضارًيا بالجهة. ومن هذه المراجع التي بين أيدينا تاريخ إفريقيا الشمالية لجوليان ومدنيّة المغرب العربي لأحمد صفر. ويحدد هذا الأخير الأماكن التي شملها المسح ودخلت ضمن الحضيرة الرومانية فيقول .
"ومن جهة الجنوب صارت المستعمرات الرومانية تشمل الضفة الجنوبية من شط الفجاج حتى وصلت توزر ونفطة وبلاد الجزائر ... والذي أمكن الاهتداء إليه وجود أنصاب على عين المكان بالجنوب التونسي قرب شط الفجاج. وقد أنشئ طريق تربط بين حيدرة وقابس سنة 16 ق م. وإن عملية المسح هذه بدأت مع بداية الاحتلال الروماني في عهد الإمبراطور أغسطس من سنة 23 ق م إلى 14 بعده واستمرت مدة طويلة "22.
و الذي نستنتجه من هذا النص أربع ملاحظات هامة:
1- أن الحضور الروماني بالجهة كان مبكرا من بداية الاحتلال.
2- الدقة في تحديد زمان ومكان الفترة التي بدأ فيها المسح وإقامة الطرق.
3- تقديم أدلة مادية على هذه الحدود والتأكد من الطريق المحصنة وجود أنصاب تحدد هذه الطريق.
4- إن المنطقة الجنوبية وبخاصة قرب شط الفجاج كانت من أهم المناطق الحدودية. بحيث تواجدت بها المستعمرات الرومانية بكثافة، وبالتالي فهي منطقة عسكرية عامرة بالقرى والمدن.
كما يحدثنا جوليان عن بعض هذه المدن وما اشتملت عليه من تطور وتقدم عمراني فيقول:"إن تراجانــوس (98- 117 م) هو أول من حدد خط الإحتلال بالجنوب. وأن بلدة- أركانيا – اتسعت في عهده حتى شط الفجاج وارتبطت بالحدود القديمة. وكانت لها طرق وقناطر وحمامات"23 .
لا أعتقد أن هذه المدينة هي مدينة الحامة، وإنما قد تكون مدينة أخرى تقع بالقرب منها ربما بجهة والي والميدة، وحاول جوليان أن يؤكد لنا ما أشار إليه احمد صفر من وجود تقدم عمراني بالجهة وذلك لأهميتها العسكرية والاقتصادية. وإن هذا التواجد العسكري ماهو إلا لحماية المستعمرات التي تواجدت بها جاليات رومانية مكثفة امتلكت كل الأراضي الخصبة والسهول الممتدة غربي الخليج حتى حدود قفصة.
إنها نصوص هامة وفرتها لنا هذه المراجع الحديثة التي انعدمت مثيلاتها بالنسبة لفترة ما قبل العهد الروماني. وقد دعم هذه النصوص ما بقي من أثار تشير إلى ماضي أصحابها.
لقد بقي سور الحامة قائما إلى العهد المرادي 1044 هـ وكان البرج بداخله وهوموضع سكنى الوالي وكان في غاية الظرف والحسن على حدّ قول التجاني. كما إنّ اسم الحامة الحالي –حامة قابس- يؤكد أن الرومان هم الذين أطلقوا عليهاهذا اﻹسمAcoue Therman Tacapitana مياه الخليج الحارة. وكثيرا ما تحذف كلمة Terman فيبقى الاسم Acoue Tacapitana أي مياه الخليج .
وقد ذكر لنا ابن خلدون اسم الحامة القديم قبل الرومان حيث كانت تنسب إلى قبيلة مطماطة التي أنشأتها و بذلك تكون أن الحامة حسبما أشار بعض المؤرخين إلى أنّها أقدم من العهد الروماني. وأشار– بلينوس الأكبــر–(23-79 ق.م) في الجزء الخامس من مجلده الضخم الذي يحتوي على 32 مجلّداإلى مكان الحامة فقال : " وتوجد غرب تكابس على بعد ثلاثة ألاف قدم عين ماء ساخنة أهلها يوزعون ماءها للري في أوقات معلومة".
نص قصير ولكنه هام حيث يحدد أولا مكان الحامة ثانيا المسافة بينها و بين قابس و ثالثا يشير إلى أهمية المياه الساخنة واستغلالها في الزراعة .و بالتالي فإن غابة الحامة قديمة قدم هذا النبع الساخن الذي لم يحدد تاريخه الأول. ورابعا فهو يبين نظام الري المتبع وهو نظام قديم وضعه (ماقون القرطاجي)24 صاحب الموسوعة الفلاحية،ثم جدده السّباط في العهد الإسلامي .
حلول الرومان بقرطاج والنظام اﻹدارى
لقد ذكر الحامة الرومانية عدد كبير من المؤرخين و الرحالة و لكن الذين زاروهاو شاهدوا آثارها فهم قليلون وفي مقدمتهم التيجاني الذي زارها سنة 707 هجرية الموافق 1308 م .والمؤرخ المغربي الحسن الوزان – ليون الإفريقي –الذي زارها سنة 926 هـ 1520 م و الذي قال: "الحامة مدينة عريقة في القديم ، بناها الرومان داخل الأراضي على بعد نحو خمسة عشر ميلا من قابس يحيط بها سور مبني بالحجارة الضخمة المنحوتة نحتا جيّدا. ومازالت حتى اليوم في أعلى الأبواب لوحات من المرمر عليها كتابات منقوشة"25.
ورغم أن هذه النصوص كانت قصيرة جدّا وبعضها لمؤرخين متأخرين كثيرا عن العهد الروماني إلا أن أهميتها تكمن في أن أصحابها شاهدوا و رأوا بأنفسهم الأثار الرومانية. وكما يقولون ليس من رأى كمن سمع .
وإن أبرز ما نستنتجه من شهادتهم أن الرومان إهتموا بهذه المدينة إهتماما متزايدًا ، مما حملهم على السعي لحمايتها، فسوروها بأسوار عالية يصونها خندق يتسرب إليه الماء في أوقات الخطر. وكذلك بناء حمامات جاءت في غاية الظرف و الحسن كما قالوا .
ونعتقد أن الذي حمل الرومان على تسويرالمدينة والحرص على حمايتها هو تواجد جاليات رومانية كبيرة بها ذات صبغة عسكرية و مدينة. وقد تكثف عدد المستوطنين المدنيين بجهة قابس لإمتلاك الأراضي الخصبة ودليلنا على ذلك الأثار الموجود بعدد من الضيعات (الهناشير) الموجدة بالجهة ومنها هذه الضيعات الرومانية حول الحامة: شانشو شرقا والمرطبة جنوبا والسقي غربا ووالي ووادي الزيتون والميدة شمالا . كماأن وجود الليمس، وهو طريق محصنة كانت تربط بين لبدة و قابس و حيدرة لحماية المستوطنات التي تقع بالجنوب التونسي من هجومات الأمازيغ الرافضين للوجود الروماني .
ولقد أشارت المراجع إلى وجود معسكرات خاصة بالشتاء تقع بمناطق الجنوب للدولة الرومانية وهي معسكرات كبيرة تسمى Castra Priberna أقيمت في مدن يتوفر فيها الماء الساخن و تكون قريبة من الحدود. كما ربطت هذه المعسكرات بطريق في غاية الحصانة سمى بالليمس الذي سبقت الإشارة إليه .
وكان أحد هذه المعسكرات بحيدرة في الجزائر وكانت المعسكرات الأخرى بالحامة و لبدة وهو ما يؤكده بكل وضوح اندري جوليان حيث يقول: " وقد بادر القوم ببناء طريق محصنة بين قابس-Tacapes - و حيدرة حيث عسكرت الكتيبة الثالثة ... ثم شرع في بناء طريق اخرى تنطلق من قابس متجهة نحو ليدة وأقيمت مراكز لتحمي هذه الشبكية من هجومات أهل الجنوب، وإن ليمس القرن الأول لم يكن عميقا وربما حفرقرب جبل الطباقة –غربي الحامة – ابتداء من ذلك الوقت" 26 .
وبالتالي فإن الحامة لم تكن مركزا حدوديا فقط كبقية المراكز المعزولة التي أقيمت على طول الليمس وإنما هي مقر عسكري من معسكرات الشتاء التي اهتم بها الرومان اهتماما كبيرا . كما كانت محطة للنقاهة والإستشفاء يتردد عليها الضباط والوجهاء من الرومان للاستحمام والإستشفاء، وسنتحدث عن الحمامات وإهتمام الرومان بها لاحقا .أما الطريق التي كانت تربط بين الحامة و قابس فكانت طريقا مرصوفة وأكثر اختصارا من الطريق الحالية. كما أنها كانت تتجه مستقيمة بدون منعرجات. ومازالت آثارها ماثلة للعيان بشانشو وسط هنشير أولاد عبد المؤمن قرب البئر الروماني الذي مازال معروفا إلى اليوم حيث جدد في عهد البايات لذلك سمي ببئر الباى. الليمس بضواحي الحامة الغربية
الليمس هو تحصين لم يشهد التاريخ له مثيلا . ويتكون من عناصر أربعة وهي :
1- طريق مرصوفة عرضها يزيد عن ستة أمتار . تربط بين ثلاثة مناطق حدودية ذات أهمية أمنية وإقتصادية هي لبدة و قابس و حيدرة .
2- حصون ومراكز للحراسة مقامة على طول الطريق بينها مسافات محددة .
3- يحاذي هذه طريق جدار ضخم بني بالحجارة تارة، و بالطوب تارة أخرى. أو بإقامة كثبان من الرمال تارة ثالثة، وذلك حسب أهمية الجهة و الخطر الذي قد يتأتي منها .
4- خندق عميق خلف هذا الجدار يمتد بإمتداده . ويذكرنا هذا التحصين العجيب بخط –برليف– الذي أقامه الصهائنة على الحدود المصرية . والذي و قع اختراقه في حرب اكتوبر1973 .
لقد أشار المؤرخون إلى عظمة الليمس، ومن أبرز هؤلاء جوليان وأحمد صفر. يقول هذا الأخير: " واﻵن نريد أن نضبط الحدود الجديدة لإفريقية الرومانية ، بعد تضخم مملكة موريطانيا سنة 40 وهي حدود يمكن معرفتها بكل وضوح ودقة بفضل سلسلة الحصون والحواجز والمتارس التي أقامها الرومان علـى التخـوم وسمـوهـا – ليمس – أي الحد المادي . والذي أمكن الإهتداء إليه وجود أنصاب على عين المكان بالجنوب التونسي قرب شط الفجاج تؤكد أن الخط الممتد كان يتجه من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي من سكيكدة إلى أن يصل إلى مدينة قابس "27.
أما جوليان فقد تبسط أكثر في الحديث عنه و إليكم ملخص ما أورده في هذا الشأن : " كان الباحثون يميلون حتى السنوات الأخيرة إلى إعتبار- الليمس- خطا محصنا كان القوم يتقدمون به كلما امتد النفوذ الروماني. و قد تبين بالإعتماد على ملخص مدفق شامل للصور الجوية أن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك . وإذا رجعنا إلى معطيات اللميس الأصلية وجدناه يتركب من عناصر رئيسية ثلاثة أولا : الخندق تتخلله أسوار وأبراج وحصون ومراكز محصنة مبنية بالحجارة أو بالطوب بحسب الجهات. ثانيا أجهزة متحصنة منفردة تقع أمام الخندق و وراءه.
– ثالثا – شبكة من الطرقات موضوعة بالاعتماد على الضرورات الإستراتيجية . ومعنى ذلك أن الليمس ليس مجرد خط دفاعي فقط وإنما هو جهاز معقّد جدّا "28
من كتاب الحامة تاريخ و حضارة للأستاذ الهادي بن وناس زريبي
1- الحامة في العهد اليوناني
2- الحامة في العهد الفنيقي والقرطاجي
3- الحامة في العهد الروماني
الحـامة في العـهدين اليـونـاني والفنيقي
فكرت في عدم الحديث عن الحامة قبل العهد الروماني وذلك لقلة المعلومات عن هذه الفترة التي تشمل العهدين الفنيقي والقرطاجي الّلذين إعتبرهما بعض المؤرخين عصرا واحدا. لأنّ العهد القرطاجي هو إمتداد للعهد الفنيقي ومتولد عنه.
لكنّ عهدا سبق مجيء الفينقيين ألا وهو العهد اليوناني الذي لم يتحدث عنه المؤرخون إلا نادرا. لكنّ الذي شجّعني على الإشارة إلى هذه الفترة من الزمن المبكر ما وجدته عند الباحث أحمد صفر في كتابه القيّم -مدنيّة المغرب العربي- الذي تحدث فيه عن وجود حضارة قديمة على شط الفجاج حينما كان البحر ممتدا إلى شط الجريد. وكذلك الأخبار المتواترة التي تشير إلى أنّ اليونان كانوا يترددون على ميناء مدينة تجارية كبيرة تسمى مدينة النحاس. كما عثرت على مقال قيّم عن الحامة في العهد اليوناني صدر بجريدة لابراس الإربعاء 06-09-2000.
الحـامة في العهد اليوناني
تؤكد كتب التاريخ أن اليونانيين ترددوا على منطقة السرت الكبير المقابلة لبلادهم. بل وصلوا إلى أن ساحوا في حوض البحر الأبيض المتوسط إثر تغلبهم على الفرس الذين حاولوا الاتجار في هذا البحر. ومن هنا فالإغريق قد ترددوا وتاجروا مع مدن هذا البحر وقراه، وتعرفوا على أهله واختلطوا بهم قبل مجيء الفنيقيين وذلك حوالي 1300 قبل الميلاد. ويشير السيد أحمد صفر إلى هذه الحقيقة فيقول: " من الأمور الثابتة تاريخيا اتصال الليبيين ( أي سكان شمال إفريقيا القدامى) بعالم جزر (الكريت) التي كانت بها مدنية زاهرة وحضارة فاخرة. ومن الأخبار المتداولة أن كروبيتوس الإغريقي دفعته الزوابع إلى السواحل الليبية، ثم رجع إليها بعد ذلك ربانا يقود سفينة تجارية. ثمّ تكرّرت رحلاته حتى تكونت بينه وبين اللوبيون1 صداقة كبيرة 2.
و يواصل صفر حديثه فيقول: " إن جزيرة قرقيرة (جزيرة قرقنة التونسية) هي من الجزر التي أقام بها اليونانيون. ويؤكد هيرودوتس أنهم هم الذين أنشأوا كذلك مدينة الصخيرة ووصلوا إلى طبرقة حيث عثر على قرون جواميس وآثار تؤكد ذلك".
اليونانييون ومدينة النحاس
ويتحدث أحمد صفر عن مدينة كان بها في ذلك العصر ميناء كبير، وتقع على شط الفجاج حينما كان البحر يمتدّ من خليج سرتا الصغير - خليج قابس- إلى شطّ الجريد حيث توجد جزيرة اشتهرت أيام اليونانيين وعرفت بجزيرة (الأطلنتس) العجيبة، و إليكم بعض ما جاء في قوله هذا: " ومن المفيد في هذه المناسبة الحديث عن الجزيرة العجيبة والتي دخلت عالم الخرافات والأساطير وهي -جزيرة الأطلنتس- التي ورد ذكرها في العديد من المراجع اليونانية. فقد تحدث عنها المؤرخ الكبير هيريدوتس وأفلاطون الحكيم 435 ق م وديودورس الصقلي"3. وأعتقد أن هذه الأساطير منطلقة عن واقع وعن حقيقة، ولا يمكن أن تنطلق من فراغ. هذا وكان العرب يسموّن المدينة القريبة منها مدينة النحاس. فأين تقع هذه المدينة يا ترى ؟"
مدينة النحاس و ميناؤها الكبير
أين تقع هذه المدينة؟ وما هي أهمية الميناء الذي يقع بقربها؟
لقد اختلف المؤرخون في تحديد موقع مدينة النحاس التي يعتقد البعض أنها مدينة ترشيش، ومن هنا أصبح في المسألة قولان كما يقول الفقهاء. وسنحاول إبراز كل منهما والمقارنة بينهما لإستخلاص النتيجة وإجلاء الحقيقة.
ذهب بعض المؤرخين الغربيين القدامى على أنّ مدينة ترشيش تقع بالقرب من مدينة قادس التي أنشأها الفينيقيون بجانب النهر الكبير. وقادس و النهر الكبير يقعان في إسبانيا.
كما ذهبت مجموعة أخرى من الباحثين الغربيين أيضا ولكنّهم من العلماء المعاصرين من ألمانيا وفرنسا إلى غير ذلك الرأي. فهم يرون أنّ موقع المدينة المذكورة يقع بمدخل شط الجريد على الضفة الجنوبية لشط الفجاج. وكان العرب يسمونها مدينة النحاس لأنها كانت تصنع وتصدّر معدنا يشبه النحاس يسمى LE LAITON ويقولون أن هذه المدينة كانت مقصد التجار اليونانيين والاقريطيين والفنيقيين واليهود. وكان بها أكبر ميناء، لإتصال شط الجريد بالبحر في ذلك الوقت"4
ومن العلماء الألمان الذين ذهبوا إلى أن مدينة ترشيش هي مدينة النحاس وأن موقعها على شط الفجاج الأستاذ الباحث -بوشارد- من مدينة ميونيخ. وقد أنجز في الموضوع بحثا معمقا دعمه بزيارة ميدانية للبلاد التونسية في فيفري 1928 حيث توجه إلى عين المكان مما جعله يزداد قناعة ويقينا أن المعلومات التي توصّل لها كانت صحيحة. ثم رسم خريطة تحدد موقع المدينة الكائنة جنوب وادي المالح الذي يصبّ في خليج قابس بعد إجتياز سبخة الحامة ويدور خلف وذرف. كما قام الدكتور–هرمان- الأستاذ بكلية برلين بدراسة مشابهة في الموضوع نفسه. و قدم هو أيضا إلى تونس سنة 1930 وزار المنطقة للمقارنة بين ما توصل إليه نظريا وبين ما سيقف عليه ميدانيا، فانتهى إلى النتيجة التالية: أن مدينة النحاس كانت موجودة على ضفة شط الفجاج أيام كان البحر يمتد إلى إذّاك شط الجريد، وكانت البلاد إذّاك عامرة باليونانيين".5
ورسم هذا الباحث خريطة للجنوب التونسي تظهر شط الجريد وهو متصل بالبحر. وقد أكد أن خصائص الخليج البحرية متوفرة في المنطقة، وحدد تاريخ ذلك ما بين القرنين الثالث عشر والثاني عشر قبل الميلاد. ويدعم أحمد صفر الذي أورد الخبرين السابقين ما ذهب إليه العالمان الألمانيان بأن العرب -الجغرافيين والمؤرخين- ذكروا أن بادية مدينة النحاس تقع قرب رمال يقال لها العرق جنوب سبخة الفجّاج شمال شرقي الحامة.
والذي يمكن أن نظيفه في هذا الصدد بحكم أنني أبن الجهة وقد قمت بعدّة زيارات للمنطقة التي ورد ذكرها كشط الفجاج والعرق والميدة ووادي المالح ووذرف ومنطقة والي التي بها بعض الأثار القديمة كالآبار والحجارة المنحوتة الضخمة نظيف إلى ما تقدم الأمور التالية :
1- السبخة والعرق مازالا حاليا من ضواحي الحامة الشمالية وجزءا من باديتها.
2- يوجد غرب مدينة وذرف مقاطع شاسعة من الرمل الذي يستعمل في البناء حاليا ، وهو يشبه رمل البحر إلا أنّ لونه أصبح يميل إلى الصفرة لكنّ حلزون البحر يشير إلى أصله .
3- ورثنا على الأباء والأجداد أنّ مدينة الحامة كانت تسمّى قديما مدينة النحاس وكان بها مائة حداد يهودي.
4- إن ضواحي الحامة مازالت تشهد على ماضيها المنجمي القديم كوجود مواد أوليّة مختلفة بباطن الأرض، فهنالك بقايا مناجم للحديد والنحاس إستغلّ الفرنسيون بعضها، ولمّا كانت مخزوناتها قليلة تركوها. كما أنّ هناك أنفاقا ومغارات عميقة بجبل عزيزة وجبل حديثة وكامل جبل الطباقة قد تكون هي أيضا بقايا مناجم أستغلّت في الماضي.
5- بالحامة أنواع مختلفة من الطين الجيّد ذي الألوان المختلفة من أصفر وأحمر وأخضر. ومن المحتمل أنّ هذا الطين إستغلّ قديما في صناعة الفخّار وقد توارت أبناء الحامة صناعة طينية مختلفة.
6- أكتشف مؤخرًا بشط الفجاج مادة – البانتونيت – قرب المكان الذي يعتقد أنّ الميناء الكبير كان غير بعيد عنه.
7- يوجد بجبل السقي من أراضي الحامة منجم قديم لملح الطعام ، استغلّه الأهالي والفرنسيون مدّة طويلة .
8- هناك أثار مدفونة بجهات مختلفة من الحامة وخاصة بجهة والي شمال شطّ الفجاج يقال أنّها أثار رومانيّة. ولكنها قد تعود إلى ما قبل ذلك. إنّنا في تونس ننسب كل الآثار القديمة إلى الرومان وهو خطأ فادح يجب الانتباه إليه.
9- هناك تشابه بين مدينة قادس وقابس كما أن إتصال قابس بشطّ الجريد يجعله نهرا كبيرا ولعلّ الفريق الأوّل من المؤرخين تشابه عليهم إسم قابس بقادس.
10- إستعان السيد – هارمان- بمهندس من أبناء الحامة أثناء زيارته لمنطقة العرق و سهل له الأطلاع على عدد مواقع الأثرية الأخرى.
هذه بعض الملاحظات سقناها كما عرفناها أو سمعناها علها تدعم ما توصل إليه العلماء المختصون. كما يعلق أحمد صفر على أبحاث العالمين الألمانيين بقوله:" ليست هذه النظريات مستبعدة خصوصا إذا علمنا أنّ شطّ الجريد يسمّى بصحراء مدينة النحاس في بداية العصر الإسلامي"6
هذا وخصص محمد المرزوقي حيزا من كتابه قابس جنّة الدنيا للحديث عن نظريّة باحثين فرنسيين هما– روديرو – وليسبس– وعزمهما على فتح قناة شط الجريد من جديد.
كما جاء في مجلة العلوم اللبنانية عدد 10 سنة 1957 حديثا عن هذه القناة بعنوان " إنشاء قناة داخلية بالجنوب التونسي" ملخصه أن الأوساط المالية الفرنسية تهتمّ بحفر قناة من ساحل قابس إلى شط الجريد الذي يمتدّ إلى الجنوب الجزائري هدفه تسهيل نقل البضائع التي تستخرج من مناجم الجنوب كما تنقل البترول. وتلطف جوّالصحراء. وقدرت تكاليف المشروع بنحو مئة مليار فرنك ".7
من أصداء الحامة في العهد اليوناني :
" على بعد كيلومترات من قابس، وعلى مستوى نصف المسافة تقريبا الفاصلة بين البحر وشط الفجاج، تنتصب واحة الحامة متحديّة البحاثة والفضوليين وقد يكون من المستحيل في تونس وجود مكان تتشابك فيه الأسطورة بالتاريخ مثل هذا المكان. وما من شك أن المكانة التي تختص بها هذه الواحة مستمدّة من الموارد المائية الحارة التي تتمتع بها والتي جعلت منها مركز نشاط مكثف، ومتنوع منذ أقدم العصور.
لكن هذه الشهرة ليست غريبة عن الباحثين " فأكوا تكابيتانا " Acoue Tacapiana كما يوحي بذلك أسمها كانت قريبة من " تاكاب". وهو الاسم القديم لمدينة قابس. سكان هذه المنطقة الأغنياء مثل التجار والحرفيين والملاحين كانوا سعداء بوجودهم هناك. خاصة وأنّ هذه المنطقة تقع على طريق تربط شمال البلاد بأقصى حدود التراب البونيقي .
وبالإضافة إلى ما سبق فإن الأسطورة الإغريقية وعلاقة تونس بالإغريق معروفة لم تتجرأ بعد على رفع الحجاب أو القناع الذي نسجته حول هذه المنطقة منذ آلاف السنين .فقد تكون واحة الحامة وجدت على ضفاف بحيرة " تريتيون " الشهيرة، هذا ما صرّحت به شهرية معروفة " المجلة التونسية " لسان معهد قرطاج قبل أن نظيف منذ العصر الحديث، هذه البحيرة التي تستمد مياهها من النهر، والتي تصبّ في بحر عرف بأخطار الملاحة فيه، ولم تكن محل إجماع المؤرخين حولها. ومع هذا فإن الرحالة " شاو " يؤكد أن وادي الحامة هو نفسه وادي تريتون " سابقا. كما يصرح الكشاف " ريبيل " وغيره وخاصة الرحالة العرب منهم أن – سيرتا الصغرى- كانت جغرافيا متوغلة أكثر في الساحل، وكانت بهذا متصلة بالبحيرة .
هذا إحتمال يؤكد النظرية التي تزعم أنّ " سيرتا الصغرى هي ذاتها بحيرة تريتون " التي سميت في ما بعد" بتاكابس " هكذا إذن تكون بين واحة الحامة والبحر، أي في قلب المنطقة التي شدت إليها نظر القداماء - مينارف - كانت تظهر على ضفاف هذه البحيرة الساحرة. والإلاه تريتون أنقذ فيها –جازون- في جزيرة فيلا مثلا . وإنّ المؤرخ المعاصر الكبير المختص في شمال إفريقيا- ستيفان قيزال- أغّري بدور هذه النظريات حول المنطقة. لقد كان سكان هذه الربوع معاصرين لإمبراطورية الإغريق المتواجدين في "سيران " من جهة، ومن جهة أخرى بأوائل الفنيقيين الذين استقروا بقرطاج متأثرين بحضارتين مختلفتين. ونتيجة لهذه التأثيرات يصف - هيرودوت- أنموذجا منها كما يلي: أثناء عيد سنوي يقام لآلهة أثينا حفل كانت الصّبايا يقسّمن إلى قسمين، ثم يدخلن في معركة تستعمل فيها الحجارة والعصيّ زاعمات أن هذه العادة ورثت عن أبائهن تكريما للألهة السابقة الذكر، والتي نشأت على أرضهم. وبعد الإنتهاء من المعركة كان كلّ فريق يزين أجمل واحدة منهن، ويوضع على رأسها تاجا وترتدي حلة قتال إغريقية كاملة – درعا- ثم يحملن العرائس على عربة حربية تجرّها الخيول ويطاف بهنّ حول البحيرة "8 .
لمحة عن الجهة في العهد الفنيقي
لقد اتفق المؤرخون على تحديد إنشاء قرطاج سنة 819 ق م، كما أنهم أكدوا على وصول الفنيقيين إلى الشواطئ الجنوبية للبحرالمتوسط قبل هذا التاريخ وبنوا لهم محطات تجارية على طول هذه السواحل من خليج سرت الكبير إلى إسبانيا. وكان من بين هذه المحطات مدينة – تاكاب– في خليج سرت الصغير. ويظهر أنهم كانوا يترددون على السواحل المغاربية قبل بناء هذه المحطات، لأن الإستقرار والبناء وتعاطي التجارة في أماكن بعيدة عن وطنهم لا يكون أمرا سهلا من غير دراسة المواقع ومعرفة المتساكنين معرفة تامة بهم. إذ لابدّ أن يكونوا قد ترددوا على هذه الأماكن وقاموا بزيارات استطلاعية وإتصالات متكرّرة بالأهالي. فمتى كان ذلك يا ترى ؟
تقدم لنا أن الأمم المتحضرة في المشرق وآسيا كانت تحاول ترويج تجارتها بين أمم العالم وقد جاء اليونانيون إلى بلادنا في حدود 1300 ق م. كما يذكر بعض المؤرخين أن مجيء الفنيقيين كان في حدود 1200 ق م. وهذا الدكتور فيليب حتي يحاول تحديد هذه المدّة فيقول "وبلغ نشاط الفنيقيين التأسيسي غربي البحر المتوسط ذروته ما بين منتصف القرنين العاشر والثامن. ولكنّ نجاحه يشير إلى وجود طبقة أقدم من المستوطنين الساميين في شمال إفريقيا. ويروي هيرودوت كيفية التعامل بين الشعبين فيقول "أن الفنيقيين على ساحل إفريقيا الغربي كانوا ينزّلون بضاعتهم إلى الشواطئ، ويوقدون النار إشارة للسكان المحليين، ثم ينسحبون إلى سفنهم فيأتي هؤلاء السكان ويضعون ذهبا مقابل تلك البضاعة وينسحبون، ويعود الفنيقيون فإذا ما وجدوا أنّ الذهب يتناسب مع بضاعتهم أخذوه و تركوا البضاعة. ولم يعمد أي من الطرفين إلى غشّ الآخر"9 .
كما ورد بالمنجد اللبناني في مادة – قبس– " قابس مدينة تونسية تجاورها الواحات الخصبة المثمرة والعامرة بالسكان. وفي الموضع أسس الفنيقيون مدينة ما بين القرن 14 و13 ق م". وأشار أندري جوليان كذلك إلى بعض هذه المحطات التجارية فقال:
"وهكذا كان لقرطاج أسواق ومراكز تموين أسسها أسلافهم. فنجد في إفريقية أسواق سيرتا الكبرى– لبدة – وسيرتا الصغرى – قابس ومواني أخرى كثيرة "10 .
وجاء في دائرة المعارف الإسلامية : " أنه كان في مدينة قابس الحديثة مدينة عتيقة تسمى- تاكاب- أسسها الفنيقيون وكانت أكثر المدن إزدهارا بخليج سيرتا الصغرى، فتداولها القرطاجيون ثم الرومان من بعدهم. وصارت في زمن الإمبراطورية الرومانية ذات أهمية كبرى "11.
هذا ولا يعقل أن تكون قابس وقتئذ على هذا المستوى من الأهمية، وتكون مدينة الحامة مجهولة لدى الفنيقيين والقرطاجيين الذين أهتموا بالتجارة وترويجها في الدواخل الإفريقية. والمعتاد أنّ تكون الرافي الكبرى مخصصة لشحن البضاعة المحلية وإستقبال البضاعة الواردة. أما التوزيع والشراء والبيع فيكون عادة بالدواخل. لذلك كانت الحامة أهم المدن الداخلية بمنطقة قابس تأتي في الدرجة الثانية بعد عاصمة الإقليم. كما كانت قوافلها تتردّد على مدن غدامس و السودان وتانبوكتو. انظر خارطة التجارة بقسم الوثائق.
وقد أكّد المؤرخون أن مدينة الحامة قديمة شأنها شأن مدينة قابس، وقد أسسها اللوبيون سكّان شمال إفريقيا القدامى، أشار إلى ذلك إبن خلدون بقوله :" وحامة مطماطة نسبة إلى أهلها الموطّنين كانوا بها من البربر.وهم فيما يقال الذين إختطوه"12.
وما إهتمام الرومان بها إلا دليل على نشاطها في عهد الفنيقيين والقرطاجيين .
منطقة خليـج قـابس في العـهد القـرطاجـي
القرطاجيون هم أبناء الفنيقيين وأحفاد الكنعانيين الذين هاجروا من بلاد اليمن إلى فلسطين حوالي ثلاثة ألاف سنة قبل الميلاد، وتعتبر هذه الهجرة من أوائل الهجرات العربية . ثمّ إنتقل بعض من هؤلاء الأبناء إلى لبنان حوالي 2800 ق م وإستقرّوا بصيدا وصور. ثمّ سيطروا على حوض البحر الأبيض المتوسط. وأقاموا لهم مراكز تجارية متعدّدة على طول سواحل الشمال الإفريقي حتى شبهها بعضهم لكثرتها وتقارب بعضها من بعض بحبات السبحة. فهي تنطلق من خليج سرت الكبير إلى البلاد الإسبانية. ثمّ ورث القرطاجيون عن أبائهم الفنيقيين هذه المحطات التجارية، من بينها تكابس درة خليج السرت الصغير. ويشير أحمد صفر إلى هذه المراكز التجارية فيقول " وكان لقرطاج أسكلة وزعت توزيعا ماهرا لتكون أسواقا ومراكز تموين. فنجد في إفريقية أسواق سيرتا الكبرى والصغرى مثل لبدة وقابس ورأس الديماس وسوسة وأوتيكة وبنزرت " 13.
والمقصود بسيرتا الصغرى خليج قابس أي المنطقة التي عرفت في عهد الاستعمار الفرنسي بمنطقة الأعراض التي تعتبر الحامة من أنشط أسواقها بحيث كانت تموّل مركز الإقليم بمنتوجات فلاحية عديدة كالمنسوجات الصوفية والحبوب والأغنام.
كما أن اهتمام الرومان فيما بعد بهذه المنطقة يشير إلى تواجد القرطاجيين بها. يقول السيد الهاشمي عبد المؤمن " إن البقايا الأثرية المتناثرة بجهة الحامة هي أثار قرطاجية ثم جدّد الرومان بعضها وأهمل البعض الآخر. كالآثار الموجودة بشط الفجيج ووالي والميدة والسقي"14 .
تجارة القوافل ومنطقة قابس القرطاجية
ليس صحيحا أن نشاط القرطاجيين اقتصر على التجارة البحرية التي ورثوها عن آبائهم الذين تكثّفت تجارتهم بحوض البحر الأبيض المتوسط. لقد استقرّ الأبناء بهذه الربوع المغربية، ونوّعوا نشاطهم التجاري، كما أقاموا أسواقا بالدواخل لترويج بضاعتهم التي يجلبونها من الأسواق المشرقية واﻵسياوية كماكانوا يصّدرون البضائع الإفريقية، واعتمدوا في ذلك على القوافل التي تتولى القيام بهذه العملية، والتي يديرها أبناء البلاد الأصليون – البربر– يقول محمد المرزوقي في هذا الشأن " لقد كانت قابس جسرا تربط القارة بسواحل البحر المتوسط. وساعدها على القيام بهذا الدور حيوية أسواقها، وتوفر بضاعتها وتطور فلاحتها وتنوع منتوجاتها، وجودة صناعتها. وكانت القوافل تنطلق من قابس محملة بمختلف البضائع الثمينة مارة بغدامس والسودان إلى أواسط إفريقيا "15 .
لقد كانت تجارة القوافل مزدهرة بمنطقة قابس يديرها البربر من عهود قديمة فلما جاء القرطاجيون طوروها ودعموها وزادوها حيوية ونشاطا. ويحدّثنا الكاتب المغربي عبد الوهاب ذنّون عن هذه التجارة فيقول " لقد كان البربر على بينة من أهمية موقعهم بالنسبة لطرق التجارة بين الصحراء وبقية سواحل الشمال الإفريقي، فنقلوا التجارة الصحراوية بين المناطق الداخلية والساحلية. ففي الجنوب كانت زويلة محطة شهيرة لتقاطع طرق القوافل بها. ثم تنقل إلى بلدة قابس وغيرها من المواني المتواجدة على السواحل التي كانت منذ قرون منافذ للتجارة الصحراوية" 16 .
هذا وكانت غدامس والسودان محطتين رئيستين وأسواقاً كبرى لتجارة القوافل بالمنطقة من قابس بصفة خاصة حيث كانت بينهما علاقات تجارية واسعة النطاق، تربط بينهما طريق قديمة تمتدّ مستقيمة محاذية للحدود التونسية الليبية. وقد أشاد الرحالون والجغرافيون العرب وغيرهم بالدور النشيط الذي لعبته منطقة الأعراض في مجال التجارة الصحراوية بحيث كانت محط رحال القوافل التي تؤّمها من كل الجهات حاملة البضاعة الإفريقية من ذهب وفضّة وعاج وريش نعام. ثم تعود هذه القوافل محملة بالحبوب والتمور والفواكه والمنتوجات وغيرها من الأقمشة والأواني المختلفة التي تنتجهامنطقة قابس أو تجلب إليها .
و قد أشار المؤرخ اليوناني استرابونً إلى دور قابس التجاري الذي قامت به من قديم الزمان فيقول " لقد كانت قابس محطة وسوقا ساحلية كبيرة " ويعلق الدكتور محمد فنطر الذي أورد هذا النصّ بقوله : " لقد أشار استرابون إلى وظيفة قابس التجارية باعتبارها إحدى الأسواق الساحلية، ولقّبها بالإمبريوم. وهي كلمة تعني في اللغة اللاتينية المرفأ السوق حيث تتجمع فيها البضائع الواردة عليها برّا وبحرا وفيها يقع التبادل والتوزيع إنطلاقا منها. فهذه تأتي بها القوافل لتأخذ أخرى و تلك تأتي بها السفن لتغادر المرفأ محملة ببديلها "17 .
القرطاجيون والفلاحة بقابس
غير صحيح أن القرطاجيين لم يهتموا بالفلاحة لاختصاصهم وانشغالهم بالملاحة التجارية البحرية، التي ورثوها عن آبائهم. والتي كانت في البداية من أولويات نشاطهم. لكنهم سرعان ما توجهوا نحو الفلاحة وذلك في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد حيث شرعت قرطاج في استصلاح الأراضي وتربية المواشي وغراسة الأشجار المثمرة وهي أمور غير غريبة عنهم لمّا كانوا بصيدا وصور. فالفنيقيون في مقدمة الأمم التي اهتمت بالزراعة وقد جلبوا العديد من وسائلها ومرافقها ومنتوجاتها التي لم تكن موجودة في البلاد المغرب .
و هذا المؤرخ اليوناني -هيرودوتس- ينوّه بوفرة الإنتاج وخصوبة الأرض في المنطقة المغاربية فيقول: " إنّ القمح في طرابلس يعطي الكيل الواحد ثلاثمائة أمثاله"18 .
هذه الشهادة تفنّد الزّعم الذي يدعي أن الرومان هم أول من تعاطى الفلاحة في بلادنا، فعبّدوا المسالك و شقّوا القنوات وغرسوا الزيتون وبذروا القمح والشعير.
لقد تأكد بما لا يدع مجالا للشك أن الفنيقيين هم الذين جلبوا العديد من الأشجار المثمرة من بلاد المشرق وأنّ القرطاجيين هم أول من توسع في غراسة الزيتون والكروم وجلبوا معهم مزروعات متنوعة من بلاد الشرق.
يقول الدكتور فليب حتّي المختص في تاريخ الفينيقيين مؤكدا اهتمام هؤلاء القوم بالفلاحة وترويج وسائلها وأدواتها ومنسوجاتها، " وكان محمول السفن الفنيقية يضمّ نباتات ومحاصيل مثل الورد والنخيل والتين والزيتون والرّمان والخوخ واللوز، وكان لهم فضل نشرها في بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط كلّها "19 .
لذلك فإن دور الرومان يتمثل في المحافظة على ما وجدوه وتوسعوا في زراعة القمح خاصة للتغلب على المجاعة التي كادت ستقضي على الدولة الرومانية.
لقد أشارت كتب التاريخ كلها إلى الدافع الذي حمل روما على استعمار قرطاج والقضاء عليها، وأكدت جميعها أن الأزمة الغذائية هي التي كانت سبب هذا الإستعمار .
و ما ازدهار الفلاحة بقرطاج في العهد البونيقي إلا دليلا على تقدمها قبل ذلك. وإن الموسوعة الفلاحية العظمى التي ألّفها العالم القرطاجي – الماغوني– إلا دليلا على أن الزراعة أصبحت في ذلك العهد علما من العلوم المتميزة. علما قائما بذاته له قوانينه وقواعده، وبقيت هذه الموسوعة مرجعا وحيدا للعالم الغربي إلى عهود قريبة،و ذلك لما تضمنته من قواعد وقوانين في ميدان الفلاحة عموما لم تسبق إليها. وتخصّ هذه القواعد طرق غراسة الأشجار المثمرة وكيفية الاعتناء بها إضافة إلى تربية المواشي والدواجن.
ونتيجة لهذه القواعد العلمية والتوجيهات العملية تضاعف الإنتاج الزراعي حتى أصبحت الزيوت والقموح القرطاجية تزود جميع ممالك العالم القديم. كان هذا قبل حلول الرومان بإفريقية .
كما اهتمت قرطاج بغراسة النخيل كمّا وكيفا. ونستنتج ذلك مما أشارت إليه كتب التاريخ ومن رسم النخلة على النقود القرطاجية، وإنّ هذه الشجرة المباركة يعود الفضل في جلبها من بلاد المشرق إلى الفينيقيين حسب ما تقدمت الإشارة لذلك، وربما جليها الامازيغ أيضا من بلاد اليمن.
ويرسم لنا بلين الأكبر لوحة فنيّة رائعة لواحة قابس في العهد القرطاجي منوها بجمالها وخصوبة أراضيها فيقول: " كانت الزراعة في تاكابس ذات طوابق ثلاث، خضروات ثم أشجار مثمرة من زياتين وكروم ورمان ، وتشرف النخلة عليهم جميعا من عليائها"20 .
ويعلق الدكتور محمد فنطر الذي أورد هذا النص فيقول " إنّ هذه اللوحة الجميلة التي رسمها بلين الأكبر في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد لواحة قابس تجعلنا نسأل عن صانعي هذا الجمال الذين ووفروا هذا الرخاء. ورأيي أنّ هذا الخصب وهذه الفلاحة ذات الطوابق العديدة من معجزات الحضارة التي أفرزت العالم الفلاحي الماغوني القرطاجي، ذلك الذي صنّف رسالته في الفلاحة تهتم خاصة بغراسة الأشجار المثمرة.وانتقلت تلك الرسالة إلى روما ومنها إلى كامل الأقطار الأوروبية"21 .
وفي اعتقادي أن هذه اللوحة لا تختصّ بواحة قابس فقط، بل تشمل واحات المنطقة كلها وكذلك واحات قفصة وتوزر، الأمر الذي يؤكد أن نفوذ الدولة القرطاجية كان يشمل هذه المناطق كلها.
كما نلاحظ أن هذه اللوحة القرطاجية مازالت ملامحها إلى اليوم بل كانت في الأمس القريب أكثر بهاء وروعة لولا نضوب الماء الذي جعل الفلاح يتكاسل ويزهد في الفلاحة فبهتت نضارة اللوحة وذوي جمالها. ولكن مازالت بعض الخطوط العريضة، والملامح الكبرى تشير إلى ذلك الماضي البعيد .
الحــامة في العهد الروماني
مما لا شك فيه أن الحضور الروماني متأكد بخليج سرتا الصغرى – تكابس– الذي كان من أهم المواني الفنيقية. وإن هذا الحضور قد توسع حتى تغلغل في المناطق الغربية إلى قفصة وتوزر .
وبالتالي فإن الحامة كانت تقع ضمن هذا الحيز الذي نمت فيه الحضارة الرومانية وإزدهرت. وتشير المراجع إلى إمتداد المستعمرات الرومانية على الضفة الجنوبية لشط الفجاج مما نتج عنه نموًا حضارًيا بالجهة. ومن هذه المراجع التي بين أيدينا تاريخ إفريقيا الشمالية لجوليان ومدنيّة المغرب العربي لأحمد صفر. ويحدد هذا الأخير الأماكن التي شملها المسح ودخلت ضمن الحضيرة الرومانية فيقول .
"ومن جهة الجنوب صارت المستعمرات الرومانية تشمل الضفة الجنوبية من شط الفجاج حتى وصلت توزر ونفطة وبلاد الجزائر ... والذي أمكن الاهتداء إليه وجود أنصاب على عين المكان بالجنوب التونسي قرب شط الفجاج. وقد أنشئ طريق تربط بين حيدرة وقابس سنة 16 ق م. وإن عملية المسح هذه بدأت مع بداية الاحتلال الروماني في عهد الإمبراطور أغسطس من سنة 23 ق م إلى 14 بعده واستمرت مدة طويلة "22.
و الذي نستنتجه من هذا النص أربع ملاحظات هامة:
1- أن الحضور الروماني بالجهة كان مبكرا من بداية الاحتلال.
2- الدقة في تحديد زمان ومكان الفترة التي بدأ فيها المسح وإقامة الطرق.
3- تقديم أدلة مادية على هذه الحدود والتأكد من الطريق المحصنة وجود أنصاب تحدد هذه الطريق.
4- إن المنطقة الجنوبية وبخاصة قرب شط الفجاج كانت من أهم المناطق الحدودية. بحيث تواجدت بها المستعمرات الرومانية بكثافة، وبالتالي فهي منطقة عسكرية عامرة بالقرى والمدن.
كما يحدثنا جوليان عن بعض هذه المدن وما اشتملت عليه من تطور وتقدم عمراني فيقول:"إن تراجانــوس (98- 117 م) هو أول من حدد خط الإحتلال بالجنوب. وأن بلدة- أركانيا – اتسعت في عهده حتى شط الفجاج وارتبطت بالحدود القديمة. وكانت لها طرق وقناطر وحمامات"23 .
لا أعتقد أن هذه المدينة هي مدينة الحامة، وإنما قد تكون مدينة أخرى تقع بالقرب منها ربما بجهة والي والميدة، وحاول جوليان أن يؤكد لنا ما أشار إليه احمد صفر من وجود تقدم عمراني بالجهة وذلك لأهميتها العسكرية والاقتصادية. وإن هذا التواجد العسكري ماهو إلا لحماية المستعمرات التي تواجدت بها جاليات رومانية مكثفة امتلكت كل الأراضي الخصبة والسهول الممتدة غربي الخليج حتى حدود قفصة.
إنها نصوص هامة وفرتها لنا هذه المراجع الحديثة التي انعدمت مثيلاتها بالنسبة لفترة ما قبل العهد الروماني. وقد دعم هذه النصوص ما بقي من أثار تشير إلى ماضي أصحابها.
لقد بقي سور الحامة قائما إلى العهد المرادي 1044 هـ وكان البرج بداخله وهوموضع سكنى الوالي وكان في غاية الظرف والحسن على حدّ قول التجاني. كما إنّ اسم الحامة الحالي –حامة قابس- يؤكد أن الرومان هم الذين أطلقوا عليهاهذا اﻹسمAcoue Therman Tacapitana مياه الخليج الحارة. وكثيرا ما تحذف كلمة Terman فيبقى الاسم Acoue Tacapitana أي مياه الخليج .
وقد ذكر لنا ابن خلدون اسم الحامة القديم قبل الرومان حيث كانت تنسب إلى قبيلة مطماطة التي أنشأتها و بذلك تكون أن الحامة حسبما أشار بعض المؤرخين إلى أنّها أقدم من العهد الروماني. وأشار– بلينوس الأكبــر–(23-79 ق.م) في الجزء الخامس من مجلده الضخم الذي يحتوي على 32 مجلّداإلى مكان الحامة فقال : " وتوجد غرب تكابس على بعد ثلاثة ألاف قدم عين ماء ساخنة أهلها يوزعون ماءها للري في أوقات معلومة".
نص قصير ولكنه هام حيث يحدد أولا مكان الحامة ثانيا المسافة بينها و بين قابس و ثالثا يشير إلى أهمية المياه الساخنة واستغلالها في الزراعة .و بالتالي فإن غابة الحامة قديمة قدم هذا النبع الساخن الذي لم يحدد تاريخه الأول. ورابعا فهو يبين نظام الري المتبع وهو نظام قديم وضعه (ماقون القرطاجي)24 صاحب الموسوعة الفلاحية،ثم جدده السّباط في العهد الإسلامي .
حلول الرومان بقرطاج والنظام اﻹدارى
لقد ذكر الحامة الرومانية عدد كبير من المؤرخين و الرحالة و لكن الذين زاروهاو شاهدوا آثارها فهم قليلون وفي مقدمتهم التيجاني الذي زارها سنة 707 هجرية الموافق 1308 م .والمؤرخ المغربي الحسن الوزان – ليون الإفريقي –الذي زارها سنة 926 هـ 1520 م و الذي قال: "الحامة مدينة عريقة في القديم ، بناها الرومان داخل الأراضي على بعد نحو خمسة عشر ميلا من قابس يحيط بها سور مبني بالحجارة الضخمة المنحوتة نحتا جيّدا. ومازالت حتى اليوم في أعلى الأبواب لوحات من المرمر عليها كتابات منقوشة"25.
ورغم أن هذه النصوص كانت قصيرة جدّا وبعضها لمؤرخين متأخرين كثيرا عن العهد الروماني إلا أن أهميتها تكمن في أن أصحابها شاهدوا و رأوا بأنفسهم الأثار الرومانية. وكما يقولون ليس من رأى كمن سمع .
وإن أبرز ما نستنتجه من شهادتهم أن الرومان إهتموا بهذه المدينة إهتماما متزايدًا ، مما حملهم على السعي لحمايتها، فسوروها بأسوار عالية يصونها خندق يتسرب إليه الماء في أوقات الخطر. وكذلك بناء حمامات جاءت في غاية الظرف و الحسن كما قالوا .
ونعتقد أن الذي حمل الرومان على تسويرالمدينة والحرص على حمايتها هو تواجد جاليات رومانية كبيرة بها ذات صبغة عسكرية و مدينة. وقد تكثف عدد المستوطنين المدنيين بجهة قابس لإمتلاك الأراضي الخصبة ودليلنا على ذلك الأثار الموجود بعدد من الضيعات (الهناشير) الموجدة بالجهة ومنها هذه الضيعات الرومانية حول الحامة: شانشو شرقا والمرطبة جنوبا والسقي غربا ووالي ووادي الزيتون والميدة شمالا . كماأن وجود الليمس، وهو طريق محصنة كانت تربط بين لبدة و قابس و حيدرة لحماية المستوطنات التي تقع بالجنوب التونسي من هجومات الأمازيغ الرافضين للوجود الروماني .
ولقد أشارت المراجع إلى وجود معسكرات خاصة بالشتاء تقع بمناطق الجنوب للدولة الرومانية وهي معسكرات كبيرة تسمى Castra Priberna أقيمت في مدن يتوفر فيها الماء الساخن و تكون قريبة من الحدود. كما ربطت هذه المعسكرات بطريق في غاية الحصانة سمى بالليمس الذي سبقت الإشارة إليه .
وكان أحد هذه المعسكرات بحيدرة في الجزائر وكانت المعسكرات الأخرى بالحامة و لبدة وهو ما يؤكده بكل وضوح اندري جوليان حيث يقول: " وقد بادر القوم ببناء طريق محصنة بين قابس-Tacapes - و حيدرة حيث عسكرت الكتيبة الثالثة ... ثم شرع في بناء طريق اخرى تنطلق من قابس متجهة نحو ليدة وأقيمت مراكز لتحمي هذه الشبكية من هجومات أهل الجنوب، وإن ليمس القرن الأول لم يكن عميقا وربما حفرقرب جبل الطباقة –غربي الحامة – ابتداء من ذلك الوقت" 26 .
وبالتالي فإن الحامة لم تكن مركزا حدوديا فقط كبقية المراكز المعزولة التي أقيمت على طول الليمس وإنما هي مقر عسكري من معسكرات الشتاء التي اهتم بها الرومان اهتماما كبيرا . كما كانت محطة للنقاهة والإستشفاء يتردد عليها الضباط والوجهاء من الرومان للاستحمام والإستشفاء، وسنتحدث عن الحمامات وإهتمام الرومان بها لاحقا .أما الطريق التي كانت تربط بين الحامة و قابس فكانت طريقا مرصوفة وأكثر اختصارا من الطريق الحالية. كما أنها كانت تتجه مستقيمة بدون منعرجات. ومازالت آثارها ماثلة للعيان بشانشو وسط هنشير أولاد عبد المؤمن قرب البئر الروماني الذي مازال معروفا إلى اليوم حيث جدد في عهد البايات لذلك سمي ببئر الباى. الليمس بضواحي الحامة الغربية
الليمس هو تحصين لم يشهد التاريخ له مثيلا . ويتكون من عناصر أربعة وهي :
1- طريق مرصوفة عرضها يزيد عن ستة أمتار . تربط بين ثلاثة مناطق حدودية ذات أهمية أمنية وإقتصادية هي لبدة و قابس و حيدرة .
2- حصون ومراكز للحراسة مقامة على طول الطريق بينها مسافات محددة .
3- يحاذي هذه طريق جدار ضخم بني بالحجارة تارة، و بالطوب تارة أخرى. أو بإقامة كثبان من الرمال تارة ثالثة، وذلك حسب أهمية الجهة و الخطر الذي قد يتأتي منها .
4- خندق عميق خلف هذا الجدار يمتد بإمتداده . ويذكرنا هذا التحصين العجيب بخط –برليف– الذي أقامه الصهائنة على الحدود المصرية . والذي و قع اختراقه في حرب اكتوبر1973 .
لقد أشار المؤرخون إلى عظمة الليمس، ومن أبرز هؤلاء جوليان وأحمد صفر. يقول هذا الأخير: " واﻵن نريد أن نضبط الحدود الجديدة لإفريقية الرومانية ، بعد تضخم مملكة موريطانيا سنة 40 وهي حدود يمكن معرفتها بكل وضوح ودقة بفضل سلسلة الحصون والحواجز والمتارس التي أقامها الرومان علـى التخـوم وسمـوهـا – ليمس – أي الحد المادي . والذي أمكن الإهتداء إليه وجود أنصاب على عين المكان بالجنوب التونسي قرب شط الفجاج تؤكد أن الخط الممتد كان يتجه من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي من سكيكدة إلى أن يصل إلى مدينة قابس "27.
أما جوليان فقد تبسط أكثر في الحديث عنه و إليكم ملخص ما أورده في هذا الشأن : " كان الباحثون يميلون حتى السنوات الأخيرة إلى إعتبار- الليمس- خطا محصنا كان القوم يتقدمون به كلما امتد النفوذ الروماني. و قد تبين بالإعتماد على ملخص مدفق شامل للصور الجوية أن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك . وإذا رجعنا إلى معطيات اللميس الأصلية وجدناه يتركب من عناصر رئيسية ثلاثة أولا : الخندق تتخلله أسوار وأبراج وحصون ومراكز محصنة مبنية بالحجارة أو بالطوب بحسب الجهات. ثانيا أجهزة متحصنة منفردة تقع أمام الخندق و وراءه.
– ثالثا – شبكة من الطرقات موضوعة بالاعتماد على الضرورات الإستراتيجية . ومعنى ذلك أن الليمس ليس مجرد خط دفاعي فقط وإنما هو جهاز معقّد جدّا "28
محمد علام الدين العسكري.القصرين.تونس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق