أول بلد بُشر فيه بالمسيح ودينه خارج أفريقيا كان فلسطين ،فكيف بُعث فيها ؟
الليبيون الذين جاءوا بهذه الأخبار السارة عن يوم الخمسين، لحقت بهم فيما بعد جماعات من المؤمنين، كانوا قد تخلفوا في أورشليم لبعض الوقت، مستفيدين من ملازمة الرسل وغيرهم من المسيحيين. "وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات ... وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة" (7). وبسبب الضيق الذي حصل بعيد استشهاد استفانوس، فقد تشتتت معظم هؤلاء المؤمنين من رجال ونساء، وعادوا بالطبع إلى وطنهم إفريقيا. وبوصولهم، وصات معهم أخبار مذهلة عن اختبارات الإيمان المسيحي في أورشليم: فمن إيمان العديد بيسوع المسيح، إلى حادثة إطلاق بطرس الرسول من سجنه بواسطة الملاك، إلى حادثة حنانيا وامرأته سفيرة الذين لقيا حتفهما بسبب ما صدر عنهما من افتراء، إلى حوادث شفاء المرضى الرائعة على أيدي الرسل، ثم شهادة استفانوس البطولية، واهتداء شاول إلى المسيحية، ذاك الذي كان ألد أعداء الإيمان المسيحي.
وبعد فترة وجيزة، وصلت أخبار إلى الساحل الليبي عن زيارة بطرس لقائد المئة الروماني، وكيف آمن جميع أهل الأمم الذين كانوا في بيته، وقبلوا خلاص الرب وعطية الروح القدس، تماماً كما أعطيت لليهود. وقد استمع أهل الأمم، من رومان وأمازيغيين، إلى هذه الأخبار بشوق واهتمام كبيرين. كما ارتاحوا كثيراً للترحيب الكبير الذي أبداه الرسل وشيوخ الكنيسة في أورشليم بالرجال والنساء أمثالهم في كنيسة المسيح.
كانت حيوية وحماسة هؤلاء المؤمنين الأوائل مؤثرة إلى أقصى الحدود. فقد ذكر لنا المؤرخ الشهير يوسابيوس، الذي من قيصرية – فلسطين (Eusèbe de Césarée) (263- 339 م)، ذكر عن القرن الثاني للميلاد يقول: "التهبت قلوب المؤمنين المسيحيين بكلمة الله المقدسة، وزاد اشتياقهم ليكونوا أكثر نضجاً وكمالاً في الإيمان. وكانت أولى نشاطاتهم في طاعة الرب المخلص، أنهم باعوا كل ما يملكون ووزعوا على الفقراء والمساكين. وبعد ذلك تركوا بيوتهم لينفرزوا لأعمال التبشير، وكان همهم نشر كلمة الخلاص بين أولئك الذين لم تصلهم هذه الكلمة بعد، وأن يودعوهم أيضاً كتب الإنجيل المقدس. وقد اكتفوا ببساطة أن يرسوا أسس الإيمان بين سكان تلك الدول المتباعدة؛ من ثم قاموا بتعيين رعاة آخرين وأوكلوا إليهم مسؤولية تعزيز الذين قبلوا الإيمان حديثاً. هذا، وقد مروا بالبلدان والشعوب الأخرى سائرين بنعمة الرب وعونه"(8).
وباستطاعتنا تصور أولئك الرجال والنساء الشجعان الذين كانت قلوبهم مملوءة بالأمل والرجاء وهم يطئون بأقدامهم سواحل إفريقيا. لقد وقف هؤلاء على الأراضي التي توازي أرصفة الساحل، وراحوا يحدقون إلى مباني المدينة القليلة الارتفاع وهي تتلألأ تحت أشعة الشمس الصباحية، ثم تساءلوا حين رأوا الدور الواقعة فوقهم: ترى؟ أي من هذه البيوت ستثمر فيها الكلمة ويكون لنا فيها أخوة وأخوات بالرب؟ أو أي من هذه البيوت سيختاره الرب ليكون بيتاً مباركاً نستظل تحته ونستمتع بالشركة الروحية مع مؤمنين جدد ونصلي بين جدرانه؟ ولقد أتى هؤلاء المسافرون المسيحيون الأوائل، ليس فقط باختباراتهم الشخصية عن حياة الرسل وتعليمهم وعن المسيح يسوع نفسه، بل أحضروا أيضاً نسخاً نادرة وثمينة لبعض أسفار الكتاب المقدس التي نقلوها بأنفسهم عن النسخ الأصلية التي كانت في أورشليم أو مدن أخرى. وبات من المؤكد أن هذه المخطوطات التي جاءوا بها، كان معظمها مكتوباً باللغة اليونانية، وهي اللغة المستخدمة لتدوين أولى الكتابات المسيحية في إفريقيا الشمالية (9).
ولربما اتبعوا أسلوب الرسول بولس في توجههم إلى المجموعات اليهودية أولاً. فاليهود الذين سكنوا شمالي إفريقيا كانوا يعرفون الله الذي خلق كل شيء، كما كانوا ينتظرون "المسيا" الحقيقي الذي وعدوا به مخلصاً. وكان أغلب ظنهم أنهم سيجدون بين هذه العائلات اليهودية قلوباً مستعدة لقبول المسيح المخلص الذي طال انتظارهم له. وكما علمنا، فإن بعض اليهود آمن بالمسيح في وقت مبكر في شمال إفريقيا. إلا أن بعضهم الآخر لم يؤمنوا. وكما حصل لبولس الرسول، فقد توجهوا عنهم إلى الوثنين ذوي المبادئ الأخلاقية الجوفاء، وكذلك إلى الذين يعبدون الأصنام الخشبية والحجرية. لقد اهتم كتاب القرن الأول بالرد على أسئلة اليهود واعتراضاتهم أكثر من اهتمام المدافعين عن الإيمان (Apologistes) في القرنين الثاني والثالث، عندما كان قد أصبح المهتدون إلى المسيحية من الوثنين أكثر من الذين جاءوا من أصل يهودي.
لم يكن في نية مسيحيي إفريقيا الأوائل أن يتركوا سجلات عن نشاطاتهم، ولا هم أسسوا أبنية متميزة. كما أنه لم يظهر بينهم في ذلك الحين، كتاب عظماء، يدونون مآثرهم وأعمالهم وإيمانهم. وعلى الرغم من ذلك، فإننا نلمس تأثير إيمانهم في الناس الآخرين بشكل فعال، كما تدل النتائج من خلال اتساع الجماعات المسيحية ونضجها العظيم، ولاسيما بعدما كشف النقاب عن هذا الأمر بعد مئة سنة (10). وفي الواقع فإن الشواهد التي بين أيدينا لا تدلنا سوى على واحدة من الجماعات المسيحية التي كانت متواجدة في القرن الأول، في إفريقيا، وذلك غرب مصر، وبالتحديد في مدينة كوريني. لكن، بحلول العام 200 ميلادية وصلت تقارير تفيد عن إنشاء كنائس مزدهرة في أجزاء عديدة مما ندعوه اليوم تونس والجزائر (11).
وكم كان الأمر سيبدو رائعاً لو عرفنا تفاصيل أكثر عن المسيحيين الأوائل، أين وصلت إليهم رسالة الإنجيل لأول مرة، وكيف بدأوا ينظمون اجتماعاتهم معاً، وكيف كانوا يعلمون ويشجعون بعضهم بعضاً. ولربما كانوا يجتمعون يوماً فيوماً في بيوتهم ليبحثوا متضمنات هذا الطريق الجديد للحياة، وليقرأوا كل ما يصلهم من الكتابات النادرة لكلام الله، والتي كانت تلف منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط برمتها. على أن وصول أي مسيحي من آسيا الصغرى أو من فلسطين كان يقابل بالفرح العارم والبهجة. وكانت أخبار وصوله تنتشر من دار إلى دار، ومن عائلة إلى أخرى، وكان المؤمنون يدعون إلى الاجتماع بهذا القادم الجديد من الشرق، فيسألونه عن مدى استيعابه لهذا الإيمان، واختباراته في الكنائس الموجودة في المناطق الأخرى. وغالباً ما كان يُسأل: هل التقى بطرس؟ أو ماذا يقول بولس في هذا الأمر؟ أو ماذا يعني يعقوب بذلك؟ أو هل أن يوحنا لايزال سجيناً في بطمس؟ ولربما جلب مثل هؤلاء الزوار أجزاء من الكتاب المقدس الذي كان يقرأ على الأخوة المجتمعين، أو كانوا يعلمونهم ترانيم جديدة كانت ترتل في أورشليم أو إنطاكية أو مدن أخرى. ومما لا شك فيه أن هؤلاء الضيوف كانوا يصغون بكل اهتمام وعطف إلى استفسارات أخوتهم، ويقدمون لهم بالتالي النصح والإرشاد ولاسيما في الأمور التي تتعلق بالممارسات اليومية لهذا الإيمان، خصوصاً بين ذويهم.
انتشرت أخبار البشارة السارة عبر السهول الساحلية لشمال إفريقيا كانتشار النار في الهشيم، وبالشكل الذي انتشرت في فلسطين. كان عدد الذين يسمعون الإنجيل يزداد أكثر فأكثر؛ وكانوا يقبلون الكلمة "بابتهاج وبساطة قلب مسبحين الله ولهم نعمة لدى جميع الشعب" (12).
لقد انتقلت رسالة الخلاص من شخص إلى آخر، ومن جار إلى جار. وبالطبع فقد كانت أخباراً سارة مفادها: إعلان محبة الله للإنسان، بإثبات وبراهين مقنعة، ومن دون التزامات سياسية أو تجارية. لقد جعلت الناس أحراراً. وجلبت لهم في الواقع حرية لم يعرفوها من قبل أبداً: الانعتاق من الأساطير الكاذبة، والخلاص من الأخلاق المتفسخة المنحلة، والتحرر من الأرواح المحلية النزوية الدنيئة. ولقد تمكنوا من رفع رؤوسهم عالياً بشجاعة واعتداد بالنفس وإيمان، وهم بفخرون بانتمائهم إلى عضوية المجموعة الجديدة المتنامية التي تبني كيانها على مفاهيم رائعة من مبادئ المحبة والثقة والنزاهة. "لقد فتحت الأبواب المغلقة، وانبعث النور مشرقاً في الظلمة" (13). هذا ما كتبه كبريانوس (Cyprien) الذي كان قد ولد في بيت وثني في قرطاجة في حدود سنة 200 بعد الميلاد، ومات بعد مرور نصف قرن. وهو أحد أشهر المسيحيين في كل العصور والأوقات.
تميل تعاليم المسيح إلى توحيد الناس على أساس مبادئ المساواة التي لا تعرف المحاباة. فليس هناك من هو أفضل أو أكثر قدراً من الآخر. فالجميع قد خلقوا من إله واحد، وجميعهم سيحاسبون على أساس المعايير نفسها. فكل من أصبح على طريق الحياة الأبدية هو محبوب في عيني الرب، ومرحب به في شعبه. ولابد من أن تكون المساواة التي جاءت بها المسيحية قد صدمت الكثير من الرجال والنساء وجذبتهم إليها. فمهما كانت خلفيات المؤمن متواضعة، ومهما كان محتقراً منبوذاً، سواء أفي السوق أو المدرسة، فله الحق في أن يأخذ مكانه اللائق كابن من أبناء الله في اجتماعات الكنيسة المحلية، فيقف هناك جنباً إلى جنب مع أغنى الناس وأرفعهم قدراً على هذه الأرض. كما يستطيع هذا الإنسان أن يتخطى هؤلاء جميعاً، ويربح تقدير الكنيسة واحترامها بنوعية حياته المقدسة وثبات شهادته في ساعة التجربة، وهو أمر لا يمكن الحصول عليه في حياة المجتمع. المؤمنون كسيدهم، لا ينظرون إلى المظهر كما يفعل الإنسان، "لأن الإنسان ينظر إلى العينين، وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب" (14). فالمسيحية بحق، جلبت الشرف والكرامة والثقة في النفس، إلى الكثيرين الذين من دونها، كانوا سيتخبطون، متشوقين لعيش حياة آمنة في هذا العالم. كان هذا الإيمان الفعال والجذاب، هو الذي اكتسح شمال إفريقيا بفرح عظيم.
لقد كان عمل هذه الجماعات المسيحية فعالاً حتى إن بشارة الإنجيل قد عرفت وقبلت في كل المدن الساحلية بشمال إفريقيا، بعد جيلين أو ثلاثة تقريباً من وصولها للمرة الأولى. لقد انتشر عمل التبشير بالإنجيل وتوسع بنشاط وإقدام، وبفترة لا تزيد على مئة وخمسين عاماً، أصبحت كنيسة قرطاجة وكنيسة كوريني وكنائس أخرى في شمال إفريقيا، كأنطاكية وأفسس وفيلبي ذات مكانة مرموقة، تسير جنباً إلى جنب، مع أعظم المراكز المسيحية الأولى التي يتحدث عنها سفر أعمال الرسل.
وفي العام 198 بعد الميلاد عندما خاطب ترتوليانوس حكّام روما دفاعاً عن المسيحية، ذكر أن الكنائس المحلية كانت تجتمع بانتظام من أجل العبادة والتعليم. فقد أقرّت الكنائس تعيين قادة لها،وقدمت الدعم والمساعدة للأرامل والأيتام. وكانت لهم مدافنهم الخاصة، وأماكن عبادة خاصة كذلك.ولم يكن المسيحيون، بأي شكل من الأشكال،مغمورين،ولا كانوا أقلية تافهة مهملة.قال ترتوليانوس :"بدأنا بالأمس فقط،ومع ذلك فقد ملأنا كل الأماكن الخاصة بكم:المدن والجزر والقلاع والقرى والأسواق وحتى مخيماتكم العسكرية وكذلك قصر الإمبراطور والمجلس الأعلى والساحات العامة."(15) ولم تمض إلاّ خمس عشرة سنة من هذا الوقت بالذات، حتى كان نمو الكنيسة العمومية قد ازداد أكثر،الأمر الذي دفع ترتوليانوس إلى التصريح بالقول:"نحن جماهير كبيرة،ونشكل الأكثرية تقريباً في كل مدينة."(16)
منقول عن موقع مسيحي.
http://www.kalimatalhayat.com/church-related/81-origin-of-christian-inheritance/1390-chapter04.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق